
أنثى تعيد رسم خريطة العشق
قراءة ذرائعية في قصيدة "دعني أحبك بطريقتي"
للشاعرة السورية ميساء علي دكدوك
بقلم الناقدة الدكتورة /عبير خالد يحيي

مقدمة
في زمنٍ تُؤطَّر فيه العاطفة بقوالب نمطية، وتُختزَل الأنثى في كائن خاضع لانفعالات الآخر، تأتي قصيدة “دعني أحبك بطريقتي” للشاعرة السورية ميساء علي دكدوك كصرخة جمالية تحاول أن تستعيد سيادة الذات الأنثوية على مفهوم الحب ذاته. تكتب الشاعرة لا لتناجي، بل لتحتج، وتغزل من مفرداتها خارطة عشق مغايرة، تليق بكائن شعري يعرف فطرته ويعترف بها.
البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
تؤسس القصيدة لموقف وجودي نسوي من الحب، تنطلق فيه المتكلمة من رفض استبداد العاطفة حين تمارس شكلًا من أشكال السيطرة على الكينونة الأنثوية. الشاعرة لا تحتج على الحب كمفهوم، بل على الحب حين يُمارس كقيدٍ أو احتلال ناعم، وتدعو إلى استرداد الحق في الحب على طريقة الفطرة، لا القوالب المفروضة.
الخلفية الأخلاقية للنص: ترتكز على الحرية الشعورية وشرعية التعبير العاطفي الخاص، بعيدًا عن المثالية المرسومة مسبقًا للعلاقات العاطفية.
المستوى اللغوي والجمالي
تتسم القصيدة بلغة شعرية مشبعة بالصور الرمزية والمجازات الناعمة والتمرد الهادئ.
العنوان بذاته إعلان عن مشروع شعري وفكري مضاد للامتثال: “دعني أحبك بطريقتي”.
المجاز المكثف: “أنتظر ديمات العشق”، “وميض وهيج السنا”، “شرفة الصبح”، كلها صور غنية بالإيحاء، تستخدم الأنواء والعناصر الكونية لتصوير الحنين والتحوّل.
التقنيات البلاغية:
التكرار: “دعني” جاءت مرارًا لتأكيد الحاجة إلى الاستقلال الوجداني.
تتكرر أدوات التوسل (بالله عليك) لا كضعف، بل كقناع لغوي للاعتراض والاحتجاج الناعم.
التضاد: “قصيدة تاهت” مقابل “زغردة البلابل”، و”أغصان ميتة تُصرّ على الانتعاش” تخلق صراعًا داخليًا حادًا.
الأسلوب الإنشائي التوسلي: “بالله عليك” مكررة كعتبة لطلب حاسم ولكن بشاعرية لا تخلو من تحدٍ ناعم.
استدعاء رمزي:
فينوس: رمز للحب الجمالي، المقابل لحب الحبيب القامع.
اللوتس، الشمس، العروس المكسورة، كلها رموز ناعمة تحكي عن البراءة المهدورة أو الولادة المتكررة من القهر.
النتيجة الجمالية:
القصيدة تتوسل بالبلاغة لتشكيل نص مفتوح على الدهشة، يدمج بين اللغة الرقيقة والنبرة الصاخبة، بين الخيال الطبيعي والانفعالات الفطرية، في توازن نادر.
الصور تنبع من الطبيعة والأسطورة (فينوس، اللوتس، الشمس)، مما يمنح القصيدة بُعدًا كونيًا غير محلي.
توظيف التناص الأسطوري والديني (ربة الشعر، الآلهة، فينوس) يمنح المتكلمة سلطة رمزية تضاهي سلطة الذكر/المخاطب.
الأسلوب الإنشائي (دعني، أرحني، لا تحبني أكثر) يحوّل النص إلى نداء وجودي قائم على إعادة رسم الحدود بين الـ”أنا” والـ”أنت”.
المستوى النفسي
القصيدة نصٌ من رحم صراع داخلي: التوق إلى الحب يقابله الخوف من استلاب الذات فيه.
القلب “المليء بصفعات الزوايا الحادة” يصر على الحياة، مما يدل على تجربة صادمة متكررة.
حضور الطفلة التي كسرت عروستها لتسد رمق عطشها، يرمز إلى انكسار الأمل المبكر في أنثى لم تشبع من الحنان.
النفس هنا لا ترفض الحب، بل ترفض صورته المفروضة: “حبك قاتل”، و”دعني أفر من منفاك”.
التكرار ليس فقط لإيقاع داخلي، بل لتأكيد رغبة داخلية في التحرر من دورة الألم العاطفي التي تعيد إنتاج ذاتها.
المستوى الذرائعي العميق:
يحمل النص وظيفة احتجاجية، موجهة إلى قارئ يتقن قراءة العلاقات الملتبسة بين العشق والسيطرة.
“لا تحبني أكثر” ليست جملة عاطفية، بل خطاب براغماتي يعيد تعريف الحب كـ حق إنساني في أن يُمارس بطريقتي، لا بطريقتك.
المخاطب هو الحبيب، لكنه يمثل أيضًا النظام الرمزي الذي يفرض شكلًا معيّنًا للحب على المرأة.
الدعوة إلى الفطرة والحماية من الآلهة، تُحوّل المتكلمة من “محبوبة” إلى “كاهنة”، ومن “أنثى” إلى “شاعرة – صانعة أسطورة”.
التجربة الإبداعية
تُجسد ميساء دكدوك في هذه القصيدة تجربة أنثوية مقاومة تُعبّر عن الحب كحرية لا كامتلاك.
لا تهرب من الحب بل تعيده إلى معناه الأول: الفطرة، الشعر، الخلق، لا الصنم الجامد.
تجربة الشاعرة هنا تُستعاد من رماد الانكسار، وتُكتب كأغنية تحرر لا كمرثية حب.
تنتمي القصيدة إلى نصوص ما بعد العاطفة، حيث لا يُعاد تمجيد الحب، بل يُعاد تفكيكه وإعادة بنائه ضمن شروط الذات المتكلمة.
خاتمة
“دعني أحبك بطريقتي” ليست مجرد قصيدة حب، بل بيان شعري يحتفي بالذات الحرة ويعيد الحب إلى مساحته النقية. ميساء دكدوك تكتب لا لتُحب، بل لتعيد تعريف الحب من موقع القوة الوجدانية والتمرد الشعري. قصيدتها تُشبه أنثى تحمل في يدها وردة، وفي يدها الأخرى مفاتيح الأسطورة.
دَعنِي أُحبك بِطريقَتي
…………..ميساء علي دكدوك/سوريا
أَنتظرُ ديماتِ العِشقِ
تهلُّ على الوَريقِ الذَّابلِ بنَبضي
وأَنتظرُ وميضاً وهيجَ السَّنا على
شُرفةِ الصُّبحِ
يُنيرُ اللّيلَ السَّاكنَ بدَمي
فضاءاتي مأهولةٌ بالظُّلمة
تَنتظرُ حريرَ أَصواتِ البَلابل
يُزغردُ على وجهِ إلهٍ
لاِستعادةِ قصيدةٍ تاهَت على ضِفّة
زَنبقةٍ،حِلمُها تاهَ بين طيّاتِ رواسٍ
تَصدّعَت مِن أَنين القَلقِ والخَوف
وهناكَ أَغصانٌ ميّتةٌ بقدَمَيّ تُصرُّ
على الإنتِعاش
وقلبي المَليء بصفعاتِ الزَّوايا الحادّة
يُصرُّ على الحياة
أَرِحني من آفاتِ اِستبدادِ حُبّك العاصف
بالحقدِ
أَرحني من صَخَبِ التَّعاطف والدَّمع
بالله عليكَ
لاتُحبّني أَكثر
دَعني أُقسّم خُبزي وماءَ قصيدي
كما أَشاءُ
دعني أَرسمُ خارطةَ عشقِي
كما أشاءُ
دعني أَفرُّ من مَنفاي
بالله عليكَ
بالعشقِ، بالهوى، بالحبّ وبربّة الشّعر
لاتُحبّني أَكثر
حُبكَ قاتلٌ
دَعني أُحبُّ كما أَشاء
دَعني على فِطرتي
دعني والآلهةُ تحرسُ أَبجدياتِ
عِشقي
دعني أُحبُّ بطَريقتي
فينوس اِستَيقَظتْ مع أَزهار اللّوتس
المُنهمكةِ بفَرحِها بوجِه الشَّمس
وتلكَ الطّفلةُ
هدأَتْ بعدَ أَن كَسّرَت عروسَتَها
لتَسدَّ رمقاً من عَطَش
دَعني من صُنعِ التَّماثيل
مادامَت عاجزةً عن الكَلام
والغِناء والرَّقص ولو أَودَعنا فيها
أَسرارَ رُوحَينا وأَلغازَ حياتِنا
بالله عليكَ مافائدةُ رسمِ الشَّموس
إِذا كانت تَعجَزُ عن إِضاءةِ الدُّروب؟!