
حين يكون عميد الأدب العربي عاشقًا
بقلم / غادة جاد

“اعذري أفكاري؛ فأنا لا أفكر وإنّما أحب”
في زمنٍ كانت فيه الكلمات تُنسج بلحن العشق والأمل، عاش طه حسين وسوزان بريسو. كان لقاء طه بحبيبة عمره ورفيقة دربه سوزان في مونبلييه بفرنسا عام ١٩١٥، لحظة فارقة في حياته، فهي الأمل الذي أضاء حياته بما حملته من قوة وحب، وكانت النور الذي أبصر من خلاله العالم بعد أن أصابه اليأس من إتقان اللغة الفرنسية على النحو الذي يرضى عنه. ساعدته سوزان على إتقان الفرنسية وقراءة الكتب، ليس هذا وحسب، بل قراءة الحياة، وكانت عونًا له في كل خطوة يخطوها لتمنحه حاسة جديدة قوامها الاهتمام والرعاية. كان صوتها جسرًا بين عالمه وعالم الأدب والعلوم الإنسانية التي عشقها، وتدريجيًا انسابت المشاعر بينهما وجاءت برسائل تحمل في طياتها كلمات تعبر عن قوة العاطفة وتوثق لقصة حب عظيمة تفتحت في بستان الحياة، ويقول طه عن لحظة لقائه بحبيبة العمر: “الشمس التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضًا، والذي كان يعصف ويقصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقًا وروعًا، وإذ المدينة تصبح كلها إشراقًا ونورًا”.
تؤكد قصة حبهما أن الحب الصادق لا يعرف حدودًا أو اختلافًا؛ فلم تكن اللغة أو البُعد الثقافي أو الديني أو حتى حالة طه الصحية كونه كفيفًا عائقًا أمامهما، فالحب الصادق لا يحتاج إلى بصر بل يحتاج إلى قلوب تنبض بالمشاعر والإخلاص. تزوج الحبيبان في فرنسا ورجعا للعيش في مصر، حيث صار طه أستاذًا في الجامعة المصرية، وبسبب أفكار طه التقدمية الإصلاحية التي سعى من خلالها لنشر ثقافة التجديد والتنوير، واجه معارضة حادة بلغت ذروتها باتهامه بالإلحاد واقتياده إلى ساحة القضاء، وكادت الأزمة العصيبة أن تقضي على رؤيته الإصلاحية في مهدها. وفي ظل هذا الظرف العصيب، اتفق الزوجان على أن تسافر سوزان إلى فرنسا مع طفليهما، وخلال تلك الرحلة تبادل الزوجان أروع رسائل الإنسانية، نشرتها سوزان في كتابها “معك” الذي كتبته بالفرنسية وبلغت نحو تسعين رسالة، مسلطة الضوء على جوانب إنسانية مهمة في حياتها مع طه حسين الزوج والحبيب والأب. وقد ترجمه إلى اللغة العربية بدر الدين عردوكي ونُشر في دار المعارف المصرية عام ١٩٧٩.
عكست كل رسالة بُعدًا عميقًا لعلاقتهما، ليصبحا رمزًا عظيمًا للحب الذي تجاوز الحواجز وحول التحديات إلى إنجازات. تقول سوزان عن هذا الحب العظيم الذي جمعها ب طه ووثقت له الرسائل المتبادلة بينهما: “ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافًا أو عطاء. أقرؤها وأقرأ تلك التي وصلتني منه بعد ذلك. خمسون عامًا مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة. أمن الممكن يا طه أنني كنتُ محبوبة على هذا النحو وأنني كنتُ المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟!”.
يعبر طه عن لوعته في أولى لحظات فراقه سوزان، بقوله: “أودُّ لو أصف لكِ ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدتُ من فوري إلى البيت؛ فقد دخلت غرفتنا وقبَّلْت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها”. بل أنه ومع استقبال أولى رسائلها له يعبر عن فرحته الغامرة بدموع عينيه، قائلًا: “ها نحن أولاء معًا من جديد، وأكْبِتُ النحيب، وأترك جفنيَّ شبه مغمضيْن لأمنع سيلان الدموع.” ويمعن في التعبير عن حالة الانفراجة النفسية التي استشعرها لدى تلقيه إحدى رسائلها، التي كان لها أبلغ الأثر في شحذ همته وتحفيزه على الكتابة، فيقول: “وها هي رسائلك، رسائلك التي تُشفى، فقد شُفيت، وأرسلت أخيرًا مقالي. إنه أفضل مقال كتبته منذ رحيلك حول طبيعة المعارضة. ففيه من الفلسفة ومن علم الاجتماع ومن السياسة ومن الهزل ومن السخرية كل ذلك مجتمعًا”. كانت أشهر الفراق الثلاثة تلك الأصعب على نفس الزوجين، حيث يقول عنها طه مخاطبًا سوزان: “علينا ألا نكرر هذا الفراق الحكيم الأحمق، فبدونك أشعر أني أعمى حقًا”. عادت الحبيبة وتعهدا ألا يفترقا بعدها أبدًا بعد أن تجرعا لوعة الفراق، ولم يفترقا سوى لمرات قليلة وجاءت رسالته التسعين من المملكة العربية السعودية حين سافر في زيارة رسمية عام ١٩٥٩ كونه رئيسًا للجنة الثقافية للجامعة العربية التي انعقدت دورتها في مدينة جدة، وزار المسجد النبوي الشريف وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب بحنو بالغ لحبيبته رسالة يقول فيها: “تعالي إلى ذراعي وضعي رأسك على كتفي ودعي قلبك يصغي إلى قلبي.”
ستظل قصة حب طه حسين وسوزان بريسو آسرة للقلوب وملهمة للعقول وملحمة رقي و عشق تروى على مر السنين.
جميل يا غادة ما سطرته بكل هذا الحب ❤️
مقالة جميلة جدا.، وفعلا هنا عميد الادب العربي لا يفكر وإنما يحب، ومن يحب يعمى عن كل شيء سوى الحب. والسؤال هل لو كان عميدنا بصيرا هل كان ليحب بهذا الاستغراق؟ سؤال يحتمل إجابات ضدية، ولكني أفضله كما هو، محب يعميه الفقد.
بوركت استاذة غادة على هذه المقالة القيمة.
مقالة جميلة جدا، فعلا عميد الادب العربي هنا لا يفكر وإنما يحب، وعين الحب تعمى عن كل ماسوى الحبيب، ترى لو كان عميدنا مبصرا هل كان ليحب بهذا القدر من الاستغراق؟ السؤال يحتمل إجابات ضدية، ولكني أفضله كما هو، عاشق يعميه الفقد.
بوركت استاذة غادة على هذا المقال البديع، محبات وتحايا.