أزمة كتابة السيرة الذاتية النسائية في بعض المجتمعات العربية
بقلم الأستاذة / حياة الرايس
– كاتبة تونسية مقيمة بين تونس و سويسرا
6/10/2024
شهادة عن تجربتي في كتابة السيرة الذاتية .
في رواية :” بغداد و قد انتصف الليل فيها.
صدرت سنة 2018 عن دار ” ميّارة ” ثم عن ” دار الكتاب ” بتونس وفي القاهرة عن ” الهيئة المصرية العامّة للكتاب” و في بغداد عن ” دار الورشة الثقافية “. ترجمت إلى الإنجليزية ،موجودة على موقع أمازون ، و مقررة على طلبة التبريز في الجامعات التونسية و تدرس في مادة سرديات عربية في الجامعات العراقية، و في جامعة بن مسيك بالمغرب و غيرهم…
هي سيرة ذاتية روائية بمعنى اخترت شكل الرواية لأسرد جزء من حياتي و ليس سيرة حياتي كلها طبعا. الحياة أكبر من أن يستوعبها كتاب أو رواية، ربما احتاج الأمر الى أجزاء . و لكن اخترت المرحلة الأولى من شبابي الذي غادرت فيه تونس لألتحق بجامعة بغداد بالعراق لمواصلة تعليمي العالي ، من 1977الى 1981.
اخترت هذه المرحلة لأنها تمثل منعرجا ومرحلة تاريخية مهمة في حياتي ؛ فترة ربما حددت حياة فتاة في مقتبل العمر تسافر من تونس إلى العراق ، من المغرب العربي إلى المشرق العربي، من مجتمع الى مجتمع مختلف…. هي مغامرة في الحياة قبل أن تكون مغامرة في كتابة الذات، لذلك كانت الرواية محمّلة بثقل تاريخي ثقافي حضاري مجتمعي في نمط العيش في العقلية في كلّ شيء… لم تكن مجرد رحلة دراسة غبت فيها أربع سنوات عن أهلي ورجعت لهم بشهادة في الفلسفة فرحة مسرورة. كانت الرحلة أكبر من ذلك ، الحقيقة كنت أحمل مشروعا مبيّتا.
سافرت الى بغداد لإطلاق مشروعي الأدبي من شارع المتنبي و بيت الحكمة. سافرت الى بلد شهرزاد لأواصل بقية الحكاية… وقد أهديت مشروعي إلى جدتي كحفيدة من حفيدات شهرزاد. جدّتي التي بدأت لي حكاية وهي تهدهدني لأنام ، فأخذها النوم و هي في عزّ الحكاية ولم تفق بعدها أبدا. إليها أواصل بقية الحكاية التي لن تنتهي لأنني سأنام مثلها في عزّ الحكاية.
سافرت إلى بغداد لاقتفاء آثار جلجامش في البحث عن عشبة الخلود، لمشروع أدبي يدفع عني فجيعة الموت والاندثار.
سافرت الى بلد الآلهة عشتار لأرد الاعتبار لامرأة الراهن المهانة في ذاتها و في جسدها. لأقول لها هنا حضارة كانت المرأة فيها آلهة و سلطة قائمة وحكمة بالغة. و كانت مسرحيتي ” سيدة الاسرار عشتار”
و الحقيقة انها لم تكن سيرتي فقط بل سيرة اناس عرفتهم و عايشتهم و عاصرتهم مثل الروائي المقدسي جبرا إبراهيم جبرا الذي خصّصت له فصلا كاملا. كذلك الروائي عبد الرحمان منيف و الفيلسوف مدني صالح : سقراط بغداد ….
هي سيرة مدينة او مدينين بين تونس و بغداد. عشت الحرب العراقية / الإيرانية. لذلك هي تعتبر وثيقة تاريخية و هناك من اعتبرها رواية تاريخية ( الناقد رياض خليف ) كونها توثق لمرحلة خطرة من حياة العراق.
الدكتورة الناقدة جليلة طريطر المختصة في السيرة الذاتية اعتبرتها من ادب الرحلة وسمّتها ” محكي السفر المعرفي لشهرزاد – الرايس” في بحثها المطول الذي ضمّنته في كتابها النقدي ” مرائي النساء “. واعتز انها اعتبرتني من الرائدات في مجال كتابة الذات في تونس باللغة العربية.
و الرواية سيرة حضارية لأني أخرجت فيها مخزون العراق التراثي والثقافي العريق لحضارة ما بين النهرين حضارة بابل وسومر واشور…
ووثيقة اجتماعية عن حياة الطلبة العرب في بغداد. و فوارق المجتمعات بين تونس و بغداد …
وثيقة سياسية لاني تحدثت عن حزب البعث و عن جهاز المخابرات العراقية كاقوى جهاز امني عربي. و الهوس الذي كنا نعيشة بسبب التجسس والتنصت و الوشايات الهالكة و الاعدامات …حكيت عن ذلك مفصلا و مطولا في فصل ” فوبيا المخابرات العراقية هذا الفصل ترجم وحده. قبل ترجمة الرواية و صدر عن دار نشر أمريكية في سلسلة ” بغداد نوار”…
ووثيقة تاريخية لاني عشت الحرب الإيرانية / العراقية. عموما الرواية وثّقت لمرحلة من تاريخ العراق في أواخر السبعينيات، يمكن لن تعاد.و لتبقى شهادة للأجيال القادمة.
خطورة كتابة السيرة
دخلت مغامرة كتابة السيرة كفن محفوف بالمخاطر. لان كتابة الذات تجر معها الكتابة عن الاخر. الذي ربما لا يريد من يقتحم اسواره و يكشف اسراره. وقد يصل الامر الى المحاكم ومقاضاتك قانونيا.
كتابة السيرة بهذا الشكل تكون كمن يمشي حافيا على ارض من زجاج مهشّم.
او كمن اقتحم ارضا ممنوعة ومسيّجة. غير مرحب به عند أهلها ممن يريدون التستر على واقع معين، لأسباب معينة، و لمصالح معينة… وفضح تلك الحقائق قد تكون له عواقب وخيمة…و قد تأذيت شخصيا بسبب ذلك.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى كتابة الذات هي امتحان كبير للذات في تصفية حساباتها مع نفسها :أهمّها مسالة ادب البوح ومزالقه و خطورته و صعوبة الاعتراف …
فكتابة السيرة مغامرة كبيرة في اللغة كما في المعني والحياة. وتحتاج شجاعة واثقة وأسئلة وجودية حارقة:
هل يجب أن نقول كل شيء ؟ هل كتّاب السيرة مجبورون على قول كل ما يتعلق بحياتهم الخاصة بصراحة وصدق …هل حياة الكاتب كتاب مفتوح ومباح على قارعة الطريق ؟ أليس من حقه بعض خصوصية ؟ أليس من حقة أن تكون له حديقته السريّة هو أيضا ؟
كل هذه أسئلة راودتني قبل واثناء كتابة السيرة.
كيف أريد أن أقدم نفسي للناس، للقراء؟ كإنسان كامل؟ كبطلة؟ رغم أن زمن الأبطال ولّى وتراجع ، أم كفرد، بشر له هناته وزلاته؟ كإنسان مظلوم مضطهد؟ كامرأة مقهورة مضطهدة ومعذبة…؟ وهناك أمر يتعلق بكرامة الذات. هل تسمح هذه الذات بتعرية هوانها وسقوطها وإهانتها وفشلها وانكسارها وخيباتها …و هل لي الحق في التعرض الى سيرة الاخرين؟
فكتابة السيرة: موقف من الذات ومن الآخر أيضا؟
ماهي حدود البوح والجرأة في مجتمع عربي إسلامي محافظ ؟
و هل يقبل القارئ تجاوز الكاتب لبعض المعايير التي تكشف جوانب محرمة أو ممنوعة لا يسمح المجتمع بالخوض فيها ، في حين أن شرط الإبداع بل شرط الكتابة هو الحريّة ، فالمجتمع المفتوح يعطي أدبا مفتوحا …والمغلق يعطي دوائر مغلقة… والأدب الذي يناقش كل شيء بدون حساسيات و دون تحفظات هو الذي يبقى.
الأدب الذي يعالج كل الأمور بصدق و بتعرية إيجابية و بوضوح دون أقنعة، هو الذي يمس وجدان الإنسان في كل مكان. و هو الذي يصل مباشرة إلى الإنسان في كل مكان بحيث يشعر القارئ أن الكاتب استطاع أن يقول ما لم يستطع هو قوله أو التعبير عنه. فحقيقة التجربة الإنسانية أنها حافلة بالانتصارات كما الانكسارات و لا حاجة للخجل من مناطق الضعف. فنحن بشر و لا ننتمي إلى عالم الكائنات المثالية او الخرافية ، وفن الاعتراف هو فن تقديم التجربة الإنسانية بحلوها ومرها. و قدرة الأديب على البوح مرتبطة بقدرة القارئ على تلقي الحقيقة كما هي و قدرة احترام البوح الإنساني و الضعف البشري.
كتابة الذات و النص الذي لا يستطيع أن يتخلص من روح صاحبه
دخلت تجربة البوح، في مجتمع يتلذّذ بالتلصص على حياة الغير، فما بالك بحياة المرأة ؟ التي تعتبر لغزا ورمزا للكيد، يجب الحذر منه. في خلفية الضمير الجمعي. وفي أجواء لا يُعترف فيها بقدسيّة الحياة الخاصة، يصير من الصعب للغاية أن يبوح المبدع بمكنون نفسه. فهو لا يعيش بمفرده، وقد يؤَثر البوح على حياة آخرين. كما أن حياته نفسها قد تتعرض للخطر. كالبوح بالأسرار الخاصة وبالأخطاء، فللاعتراف قيمة تفوق قيمة الصمت أو التزوير. في المدونة القانونية. فهناك خطر قانوني يترصده اولا و هو الأخطر.
لان كتابة السيرة الذاتية لا تحتمل الاقنعة و لا تجيد فن التخفي وراء الشخصيات والحقائق والاحداث… انها اكبر من مجرد تغيير اسماء الاشخاص والامكان والازمنة كما في الروايات العادية. اذ يكفي ان تكتب في مقدمة الكتاب دافعا عنك كل شبهة :” هذه الرواية واحداثها و شخوصها لا يمتون للواقع بصلة ” و تخلص نفسك من كل شبهة او تهمة .
يرى الناقد المختص في ادب السيرة عبد الله إبراهيم: أنّ أدب الاعتراف محطّ شبهة وموضوع ارتياب، لأن الجمهور لم يتمرس بقبول الحقائق، فيرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكا غير مقبول، وإفراطا في فضح المجهول، فالاعتراف محاط بالكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تقليدية تتخيل أنها بلا أخطاء، فتبالغ في ذكر نِعم الله عليها، وكأنها هبات خُصّت بها دون سواها، وتتحاشى ذكر عيوبها، وتتوهّم أنّها تطهّرت من الآثام التي واظبت على اقترافها مجتمعات أخرى. فتدفع المخاوف الكثير من الكتّاب إلى اختلاق تواريخ استرضائية لمجتمعاتهم، وابتكار صور نقية لذواتهم، متجنبين كشف المناطق السرية في تجاربهم، فصمتوا عمّا ينبغي عليهم قوله أو زيّفوا فيه، وربما أنكروا وقوعه، يريدون بذلك الحفاظ على الصور الشفّافة لهم ولمجتمعاتهم..
و كثيرا ما يلجؤون الى التخفي وراء شخصيات رواياتهم و هنا يتضح الالتباس بين السيرة الذاتية و الرواية.
كتابة رواية سيرية هي اعتراف ب”الشبهة ” و تلبُس بالتهمة ” لأنها موقف من مفهوم الكتابة. موقف من الحياة. موقف من الذات و من الاخر . لأن الاعتراف في حد ذاته يقع في المنطقة المتوترة بين رغبة الجمهور في براءة المشاهير والكتاب الذين أعجبوا بهم واتخذوهم قدوة أو رغبة هؤلاء في التطهّر ممّا لحق بهم من أخطاء اقترفوها عن قصد أو عن غير قصد خلال حياتهم .
دخلت التجربة وانا على وعي بصعوبة البوح في مجتمع مزدوج الشخصية يعيش حياتين واحدة في السر واخرى في العلانية. وثقافته ثقافة تسًتر على العيوب و الاخطاء و الذنوب :” و اذا عصيتم فاستتروا” مجتمع يمشي بجوار الحيط و يقول يا ربي الستر خوفا من ان تقع على رأسه مصيبة من حيث يدري أو لا يدري. مجتمع خائف من الذات ومن الآخر غير متصالح مع ذاته ولا مع الاخر. لا ينظر للآخر كبشر يمكن ان يخطئ. وانما كغريم يترصد زلاته ووقعاته، حتى يجهز عليه.
زيادة على كوننا ليست لنا ثقافة الاعتراف مثلما هي في المجتمع المسيحي كما اسلفت. حيث الفرد يتطهر ويتخفف من ذنوبه بالاعتراف والتصريح بها بصدق في الكنيسة.
بل لنا ثقافة الكذب. الزوج يكذب على زوجته. الزوجة تكذب على زوجها. الابن يكذب على والده. الاب يكذب على ابنه … والفرد يكذب على نفسه في ضرب من الشيزوفرنية المرضية. ليس هناك مواجهة بين الذات والذات. فما بالك بالأخر؟
و لكن الكاتب هو كائن حرّ في النهاية يستطيع ان يتجاوز كل ذلك. بل مهمته كشف هذا الزيف و تعرية الرياء والنفاق الاجتماعي و لكن الصعوبة انه في كتابة السيرة الذاتية يجب ان يبدا بنفسه و هو الكاتب المثل في نظر قارئه و حتى في نظر نفسه.
و لأنه كائن حرّ فان هذه الحرية مأزقه لأنه من ناحية حرّ ولكن حريته ستواجهه بالمتلقي الذي ينتظر منه إدهاشا ما، لا يشير إليه بعينه إن شكلا أو تيمة. يطالبه بصدق بليغ أكبر من الصدق الأخلاقي. صدق فني غير استعراضي، صدق حميم.
ولكن عندما يستجمع الكاتب كل شجاعته بين يديه و يدخل فن أدب الاعتراف بكل قوة لأنه كاتب حرّ في النهاية، يصطدم بالمتلقي. هل المتلقي جاهز لتقبل الاخر بأخطائه وزلاته في فن الاعتراف؟ بعدما كان يرى في كاتبه مثله الأعلى. وهل تقبل مؤسسات النشر كل أنواع البوح ام انها تروج لبضاعة الجنس الرخيص والعهر المقنن في التجارة بالنص الادبي؟
و هي مغامرة لأنها امتحان كبير للذاكرة في ترميم ثقوبها و اعادة تأسيسها من جديد فكأنما هي عملية بعث جديد في نوع من اكسير الحياة يبعثنا خلقا جديدا ابتداء من تلك المرحلة ( خاصة عندما تكتب عن عشرينات عمرك و انت في الستينيات ….)
كأنك تتحدى الموت القريب بالحياة الاولى في مرحلة متأخرة من العمر هي نوع من مواجهة الموت. و لكي تترك وثيقة تاريخية و لو جزئية للأخرين كشاهد على انك كنت يوما بينهم. أو قد مررت من هنا. و الكتابة في النهاية ليست سوى تحد للموت في ضرب من تحقيق وهم الخلود.
هي مغامرة ان تكتب حياتك بصدق مع ذكر كل الحقائق عن الفشل و الضعف البشري والاخطاء وكل ما يتعلق بالبشر …. في مجتمع خلفيته ثقافة التستر على كل هذه الاخطاء …. يعيش ازدواجية مرضية تطال النساء والرجال معا او هي مضاعفة عند المراة اكثر وهذا مما يزيد الطين بلّة.
تقول الناقدة المغربية ” زهور كرام ” تكتب المراة السيرة الذاتية بحثا عن اكتمال الهوية في مجتمع ينظر اليها نظرة نقصان “.و اقول ذهبتُ في كتابة الذات بحثا عن اكتمال الكائن المجبول على النقصان . فبالخلق و الابداع نعيد تشكيل ذواتنا، خاصة اذا فشلنا في صياغتها في الواقع او فشلنا ان نعيش ابداعيا او شعريا او روائيا على الارض لان الابداع في الحياة اعمق من الابداع على الورق .
و هنا اتساءل اليس ابداع حياتنا في اللغة و باللغة هو تعويض عن فشلنا في ابداعها في الواقع ؟ و بقطع النظر عن كل ذلك فان رغبة الكاتب في اعادة صياغة ذاته هي رغبة قديمة في نوع من اثبات الوجود وتحدي ما بعده الى امل الخلود.
أكتبُ لأكون!»، يقول جورج ماي : أكتبُ لأكونَ حاضراً الآن، ولأبقى حين أغيب. !
أنَّ الرواية والسيرة الذاتية ليستا إلاّ طريقتين لتحقيق حاجة واحدة هي تأليه الإنسان بمنحه القدرة على الخلْق، أو بتمكينه من الإفلات من ربقة الزمن “
صحيحٌ أنَّنا بالكتابة نعيدُ خلْق الأشياء على هوانا، وصياغة أنفسنا كما نشتهي، أو نستنكرها حتّى، غير أنَّ الغايةَ ليست تأليه البَشَريّ فينا بقدر ما هي بَسْطُ رؤيتنا للعالم ولأنفسنا بالكلمة. أما أن نتمكّن من الإفلات من ربقة الزمن؛ فهذا جائزٌ إنْ لم أقُلْ بمشروعيته كاجتهادٍ بَشَريّ، احتكاما مِنّا إلى أنّه «في البِدء كانت الكلمة».. فلِمَ لا نُصانُ ونُحْفَظ بواسطتها للأبد. في حين ان المعادلة وجودية حسب رائي:
احيانا اشعر انني لا اكتب ذاتي فقط بل اقراها أيضا. وكتابة الذات و قراءتها يؤثران في المعجم .
اخترت كتابة الذات و لست ادري تماما ان كنت اكتبني او اقراني بصوت عال لأراني اكثر و لأشرك القارئ في رؤيتي من زاوية التلقي …اكتبني بعد حوالي اكثر من 30 سنة لينعكس فهمه عليّ. أي أراني في مرآته فاراني ايضا ببعد اخر في مراة التلقي عند القراء او النقاد . اكتب السيرة الذاتية لاقرا معكم حدود الذات ولأخرج من دائرة الاكتمال و النقصان الى الذات الفاعلة في اختيار الهجرة للدراسة بالخارج و الإفلات من براثن الانتماء الى الحزب الحاكم الذي يمارس سياسة استقطاب الطلبة عبر عديد المواقف ……
قد تنطلق في بداية انجاز السيرة من رهان حكي الذات بضمير الانا المتكلم و لكن فيما انا انخرط في منطق التخييل يحدث ان تصبح ضميرا من بين ضمائر عديدة و متنوعة و مختلفة
ان الكاتبة عندما تدخل تجربة ذاتها في الابداع فإنها تقترح على الابداع اسئلة مغايرة و هي اسئلة تفعل في الكتابة و في تصور السيرة الذاتية كما تفعل في الادب والنقد معا .
سيرة ذاتية أم رواية ؟ في الحالتين هي لحظة معرفة الذات وتعريتها ومحاورتها. النص ليس مجرد سرد لأحداث وقعت بالفعل بل هو محاولة لفهم هذه الأحداث وترتيب التفاصيل في نسق يكشف طبيعة الذات الكاتبة. الكتابة في حد ذاتها هي تَعرُف الذات على الذات من خلال الرؤية المعيارية التي تنتقي احداثا وتهمل أخرى.
ولكن في كل الأحوال لابد أن تكون هناك رؤية معيارية للكاتبة أو الكاتب تحدد ما يجب اهماله وما يجب التركيز عليه. ولا يهم في النهاية من هذه العملية الانتقالية سوى تماسك البنية النصية وهو التماسك الذي يعوض تشرذم وتفتت الذات الكاتبة .السيرة الذاتية لا تعني أن يقوم شخص بكتابة حياته بتسلسل زمني منطقي بقدر قيامه بكتابة اناه فالذات في الأصل متشرذمة، متفتتة ومفككة تحمل في طياتها مساحات صمت وشروحا. وهذه المشاكل الوجودية يتم اكتشافها والتعبير عنها بكتابة سيرة ذاتية، والسيرة الذاتية الأدبية تأخذ – منطقيا – شكلا روائيا بمعنى حدث كذا ثم كذا. ولكن أثناء تبلور هذا الشكل الروائي يكون الكاتب على وعي تام بالتفتت الداخلي للذات والذي ينعكس في السلوك الخارجي. وبذلك تتحول كتابة السيرة الى وسيلة لاضفاء التماسك واكتساب هوية محددة للذات. أي أن الذات ليست متوحدة وساكنة طوال الوقت بل هي متفتتة، متعددة ولا زمنية وهو مفهوم ينتمي الى نظريات ما بعد الحداثة. ويلتقي مع هذا المفهوم تعريف شاري بنستوك للسيرة الذاتية حيث تقول: ” إن السيرة الذاتية تكشف الفجوات، ليس فقط في الزمان والمكان أو بين الفردي والمجتمعي، ولكن أيضا التباعد المتزايد بين طريقة وموضوع الخطاب، أي أن السيرة الذاتية تكشف عن استحالة تحقيق حلمها: ما يبدأ بافتراض معرفة الذات ينتهي بخلق قصة أخرى تعتم على الافتراض الأول”
وكأن السيرة الذاتية هي “المرآة التي يلتقي فيها الفرد مع ذاته ” ليتحاور معها ويضفي عليها بعض التناسق والتماسك. الذات التي عاشت مشتتة لفترة طويلة تلتئم بعض أجزائها على الورق .
و في النهاية نحن لا نكتب سيرة او رواية و انما نكتب (لملمة شتات) لذاتنا وذات الآخر وذات القاريء.نعم بتوريط القارئ ادبيا و معرفيا في النص. ومن التقاء الثلاث ذوات في فضاء النص يخرج هذا النص أكثر تماسكا وقوة.
وفي كتابة السيرة الذاتية ليس المهم ما نقوله ولكن الاهم ما بقي في ردهات القلب من اسرار و من مرار مستعص عن القول. لا السرد يبوح به ولا الذاكرة تتكرّم بنسيانه ولا الخيال يقتنع بما ينسج للتستر عليه. ما لا يقال اكبر بكثير مما يقال. حتى تأتي الرواية التي لا تعلن عن نفسها – سيرية – وتبدأ لعبة التخفي والخدعة والتحرّر… وهذا ما يفعله كل الكتاب. لان الكاتب كائن حرّ لا يريد التقيد بحدث. والقارئ حرّ ايضا ليفهم كما يريد …او هو يفهم ما يريد ان يفهمه، لانه يكتب معنا من حيث لا ندري، بمجرد التفكير فيه وقت الكتابة هو يكتب معنا بالتاكيد.
وما النص الا لعبة وخدعة بين الكاتب والقارئ و لكنها خدعة ممتعة على اية حال.
لان النص لا يستطيع ان يتخلص من روح صاحبه أبدا.
أخيرا لماذا بغداد في هذا الوقت؟
هو كتابة مرحلة تاريخية من حياة بغداد. واخراجها من دائرة النسيان او الالتباس او الصمت التاريخي واحيائها وبعثها سرديا من جديد. انما بالسرد والحكي نحيا. وادخالها مجال النص والدفع بها نحو الانجاز الاخباري فيحدث ان يحمل هذا الانجاز افعالا انتجتها الذات الساردة فيما هي تبحث عن اكتمال هويتها. لان الهوية تتحقق داخل الاحداث الكبيرة والخطيرة وتتشكل المواقف من هذه الاحداث التي يُزج بنا فيها من حيث لا نعلم. ذهبت للدراسة في بلد لم يكن به حرب فاذا بي اجدني في قلب حرب ليس لي ناقة فيها ولاجمل. للاخبار عن مرحلة تاريخية حرجة وخطيرة في تاريخ العراق ( الحرب الايرانية \العراقية )
بعد هذه الحرب و بعد الحصار و بعد الاغزو الأمريكي مع قوى التحالف على بغداد و ما ذاقته من ويلات …
اردت تهريب بغداد من اللصوص والغزاة لتبقى في نصوصنا وحروفنا. باعيننا وذاكرتنا ووجداننا .فالعراق للأسف بلد يشتهيه الغزاة.
حياة الرايس كاتبة تونسية تعيش بين تونس و سويسرا