أسرار السعادة : ابني غير مسؤول- ظاهرة عالمية ( الجزء الأول )
بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم- استشاري نفسي
15/11/2024
ابني ذو الثانية والعشرين يتصرف وكأنه فى السادسة عشرة، تصرفاته لا تتصف بالنضج وغير قادر على تحمل مسؤولياته الحياتية التي تنم عن استقلاله الملائم لعمره…
فى إحدى المقابلات التشخيصية بالعيادة النفسية كانت لدينا أسرة من أب و أم و ابن . بدت عليهم علامات التوتر والانفعال. وقبل بداية الجلسة ، طلب الابن أن يظل جالسًا فى صالة الانتظار بالخارج ورفض البقاء مع أبويه بحجة أنه يترك لهم حرية الحديث بدونه ودون تدخل من جانبه، ومن ثم سيتحدث معى بمفرده بعد لقائي بأبويه ..
كان واضحًا أن ثمة اتفاق مسبق بينهم . هكذا أعطيتهم الفرصة لفهم المشكلة الخاصة التى جاءوا من أجلها.
بدأت الأم بالحديث عن معاناتها مع ابنها بسبب فشله فى عدد من المواد والكورسات الأكاديمية فى الفصل الدراسي الأول من السنة الثانية فى جامعته الخاصة ، والتى تتطلب مبالغ مالية كبيرة تتكلفها الأسرة حاليًا بمشقة، لاسيما أن له إخوة اصغر منه وهم أيضًا ً فى مراحل دراسية تطلب كل التركيز والاهتمام من جانب الوالدين .
عبرت الأم عن المشكلة الحقيقية وراء عدم قدرة ابنها على النجاح والتفوق لاسيما أنه كان متفوقًا فى مراحل دراساته السابقة ويتمتع بقدرات عالية من الذكاء الأكاديمي وليس هناك أية عوائق تمنعه من تحقيق التفوق و مواصلة الدراسة، كما أنها كانت تخشى أن تتخذ الجامعة قرارها بفصل هذا الابن في حال عدم حصوله على الدرجات المؤهلة لمواصلة الدراسة ، و غالبًا ما كان يتصرف ابنها بعدم اكتراث لدى عودته من جامعته فى فترة الإجازات الدراسية و لا يبدي أدنى اهتمام بمسؤولياته الأسرية، ويقضي معظم أوقاته بين النوم والاستيقاظ المتأخر، ثم يذهب مع أصدقائه القدامى لتمضية ساعات طويلة فى لعب كرةً القدم التى يعشقها.
وعندما حان دور الأب في الحديث عن المشكلة كانت علامات القلق والخوف أيضًا واضحة عليه لاسيما مع تضاؤل فرص إيجاد جامعة جديدة لهذا الابن في ظل الظروف الصعبة التي تواجهها الأسرة.
وبعد لقائي بالأبوين وفهم طبيعة شكواهم من سلوكيات مرفوضة يقوم بها الابن ، التقيت الابن بمفرده. تحدث بانفعال وغضب موضحًا اعتراضه على أساليب تعامل الأبوين ووصفهما بأنهما غير قادرين على فهم احتياجاته الشخصية و أن كل ما يزعجهما يتمثل في الوفاء بمصروفاته الجامعية و سبل تعليمه. كما عبر عن رفضه لأسلوب والده الدائم الإلحاح و التهديد بالحرمان من المال إذا ظل متقاعسًا عن أداء مهامه الدراسية . فالابن يشعر بالتوتر وعدم القدرة على التحمل إزاء هذا التهديد المستمر ، و لا يقوى على التركيز على التحصيل الدراسي، و يظهر رفضه الالتحاق بهذه الجامعة أو دراسة تخصص آخر مختلف، ولم تكن لديه أدنى فكرة عما يرغب فى دراسته إذا انتقل إلى كلية أخرى بنفس الجامعة، وقد ظهر هذا بوضوح عندما قمت بسؤاله عن اقتراحاته البديلة إذا ما قام بتغيير تخصصه.
بذل الوالدان كل المحاولات والسبل لتشجيع الابن على الاهتمام بدراسته وتحفيزه للنجاح لكن دون جدوى.
هذه المشكلة هى نموذج مألوف فى حياتنا وحياة أبنائنا وبناتنا ويعانى منها الآباء والأمهات على المستوى العالمى، فقد أصبحت ظاهرة مجتمعية حقيقية ومدركة عالميًا، تتساوى فيها المجتمعات الأمريكية و الأوربية و العربية فى الفترة الحالية، فنجد الكثير من الأسر تعانى أشد المعاناة بما مع الأبناء فى عدم تحمل المسؤولية الملقاة عليهم أو حتى محاولة التخلص من التعود على الاعتماد الكلي على الأبوين بانتقالهم إلى مرحلة جديدة من النضج وإدراك طبيعة مسؤولياتهم المتعددة.
الحقيقة ومن نظرة علمية وعملية ضرورى ان ندرك ان هناك فروق فردية بين أبنائنا وبناتنا فى عدم قدرتهم على فهم تحديات الانتقال إلى مرحلة النضج ، فهذه المرحلة تتطلب مهارات يجب اكتسابها فى حياتهم معنا. وقد يكون البعض منا حاول تدريبهم أو تعليمهم تلك المهارات بشكل ما، ولكن لم تكن كافية لاكتسابهم لها.
وكى يمكننا التعامل مع هذه المشكلة من الناحية النفسية والمهنية، يجب أن نحاول فهم العالم الداخلى Inner world of growing up أى تفهم ماذا يدور فى مراحل نمو أبنائنا وتطور أعمارهم فى مراحلهم المختلفة،
ونسأل أنفسنا هذه الأسئلة:
لماذا يعانى بعض الأبناء فى انتقالهم إلى مرحلة معينة و منها مرحلة النضج ؟ وما هى التحديات يواجهونها وتمنعهم من الوصول إلى تلك المرحلة ؟
وقد يكون من المهم معرفة أن موانع الانتقال لدى الابن أو الابنة فى مرحلة ما تخلق صعوبة لديهم فى نموهم ويجب اكتشافها كى يستطيعوا تخطيها.
كما يجب تفهم طبيعة المواقف الحياتية التى تمر بها الأسر الحديثة فى عالمنا المعاصر..
فهناك صعوبات تواجه أبنائنا وقد تؤدي إلى تخوفهم من تحمل مسؤوليات كبيرة في سن النضج و منها العجز عن الحصول على دخل ثابت ومستقل نتيجة للأحوال الاقتصادية السيئة فى الوقت الحاضر ، فضلًا عن أن تكاليف ومتطلبات التعليم والحصول على شهادات أكاديمية أصبحت باهظة التكلفة ويتطلب الاعتماد المادي على أبائهم ،كما أن تغيير توقعات الأبناء من الزواج وتأجيله إلى الثلاثينات وعدم قدرتهم على امتلاك منزل مستقل وبالتالي فهم يتقبلون الحياه مع الأسرة ويفضلون الاكتفاء بعلاقات خارجية مع الطرف الآخر. جميع هذه العوامل أدت إلى تعطل عمليات النمو لدى أبنائنا و انعدمت لديهم الرغبة فى الاستقلالية و هو ما يمثل البعد عن النضج تمامًا.
*ولكننا نلفت الانتباه إلى السؤال الرئيسي الذى يجب ان نًواجهه:
لماذا يفشل بعض الأبناء فى الانتقال بيسر ومرونة من مرحلة البلوغ إلى مرحلة النضج الاجتماعي التى تحدث بشكل طبيعي فى مراحل النمو العادية، لاسيما إذا حاولنا تفسيرها من الناحية النفسية ؟؟
إن الانتقال إلى مرحلة النضج هى مرحلة تتطلب انفتاح وتبصر وتقبل انفعالي مساند وعميق لأبنائنا وبناتنا، مع الوعى والإصرار من جانبنا نحن الأباء على أن نغير من أساليبنا التى اعتادنا عليها فى تعاملنا مع أبنائنا وبناتنا فى المراحل السابقة من أعمارهم.
فهؤلاء الأبناء ليسوا ” كسالى” أو ” محدودي الذكاء”، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحن نعلم جيدًا أن الكثيرين منهم يتميزون بدرجات عالية من الذكاء الأكاديمي و الاجتماعي.. ولكنهم يفتقرون بشدة إلى المهارات الرئيسية التى تساعدهم على تخطى مرحلة البلوغ وانتقالهم إلى مرحلة النضج الفعلى.