إلى من تشير أصابع الاتهام؟

إلى من تشير أصابع الاتهام؟

بقلم الدكتورة / علياء إبراهيم  

  بدأ العام الدراسي منذ أسابيع عدة، وبدأت المواقع الإلكترونية والصحف والبرامج الحوارية تتحدث عن حوادث عنف باتت تشهدها بعض المدارس. ومع كونها ليست ظاهرة إلا أنها تنوعت في درجات العنف وفي الفئة المستهدفة، ما بين طالب يستهدف  زميله بمطواة يحملها في جيبه، أو لكمة من زميل لزميله في صدره تؤدي إلى مفارقته الحياة، مروراً بمديرة مدرسة تؤدب التلاميذ بـ(الشبشب)، وطفلة حضانة تُصفع على وجهها من أجل تحفيزها لتقرأ، وصولاً إلى ابتزاز بين زميلات المدارس بسبب تصوير فيديوهات دون إذنهن، أو “تهكير” واختراق  هاتف إحداهن، وانتحار طالبة خوفاً من هذا الابتزاز، وليس انتهاء بقتل طالب لحبيبته التي تركته بعد نهاية قصص حب (سنة أولى جامعة).

وحدّث ولا حرج عن حوادث معلنة أو غير معلنة للتحرش بالأطفال من أشخاص مرضى وبلا ضمير، بالإضافة إلى العنف اللفظي المتمثل في حالات التنمر التي تشهدها بعض المدارس.. تنمّر على خلق الله بلا رحمة، وسخرية وتنابز بالألقاب، ليقع طفل أو طفلة أو مراهق تحت وطأة التنمّر على خِلقته التي  ليس له يد فيها، والأسوأ عدم القدرة على  التعامل مع المختلفين من ذوي  الهمم، رغم أن قانون الدولة ينص على دمجهم في المدارس.  

وقبل أن يرى القارئ صورة قاتمة، فكل النماذج التي ذكرتها تظل “حوادث فردية”، لا تمثل ظاهرة، لكنها تدق ناقوس الخطر، وتضع أيدينا على مكمن الخطأ، وتوجّه أنظارنا إلى أهمية أن تتوازى جهود وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في تطوير المناهج وأساليب تدريسها مع إكساب الأطفال والمراهقين والشباب في المدارس والجامعات مهارات حياتية، أصبح من الضروري امتلاكها تدريجياً لمواجهة هذا العصر بكل مستجداته، خاصة في ظل المبادرة الرئاسية المصرية للتنمية البشرية التي تستهدف  تنمية الإنسان منذ نعومة أظفاره.

 فقد أدركت الدولة المصرية بهذه المبادرة الرئاسية التي تهدف لبداية جديدة لبناء الإنسان، أننا لا نولد ونحن نعرف كيف نذاكر وكيف نواجه الاختبارات وكيف نختار التخصص وكيف ننظم أوقاتنا وكيف نستخدم التكنولوجيا لصالح تنمية مهاراتنا مع التسلية والترفيه، وكيف نواجه مشكلة أو خلافاً أو اختلافاً مع غيرنا دون استخدام  لغة الأيدي والألسنة  في أقل مستوى من  الخلافات.. أننا لا نولد ونحن نعرف كيف نحمي أنفسنا من التحرش، جسدياً كان أو لفظياً،  وكيف نعرف أن أجسادنا لها خصوصيتها، وحين نواجه ضغوطا نجد من يعيننا من الكبار سواء في الأسرة أو المدرسة.. لكن كيف والكبار لم يتعلموا كيف يديرون ضغوطهم اليومية؟! وكيف لطفل نشأ في أسرته على العنف ألا يكرره مراراً وتكراراً في واقعه! 

وكيف يواجه الطفل زميله المتنمر الذي شكّل عصابة انضمت إليه للسخرية من (متنمر به) يخجل من أن يصارح أبويه المشغولين عنه، وهو الذي لم يتعلم كيف يتعامل مع هذه الضغوط، فما بالك بالمعلمة والمعلم اللذين هما أم وأب لديهما ضغوط أسرية وحياتية، ولم يتعلما كيف يتم تفريغ تلك الضغوط وإدارتها، وهما  يلهثان وراء (ماراثون) الانتهاء من المناهج والدروس الخصوصية والامتحانات والجودة.. والمناهج لا تعلّم الطفل بشكل تدريجي كيف يتعامل مع مشكلات وتحديات أفرزتها طبيعة حياة هذه الأجيال التي تتجول بين الشاشات، خاصة أن شاشة التلفزيون انتقلت من الركن الثابت في المنزل إلى شاشة يمتلكها كلٌ منهم بين يديه، فمن خلال  مسلسل درامي واحد يمكن أن يتعرض الطفل إلى تكرار مشاهد العنف والاغتصاب والفتونة من قبل نجومه الذين يتربعون على قمة هرم القدوات لديه، ولا يستطيع أن يفرق بين الواقع والتمثيل.

وإذا أجاب أحد أن الدراما بريئة، فليطّلع من يشاء على الأبحاث التي تؤكد مدى تأثير كثرة التعرّض لمشاهد العنف في الأعمال الدرامية التي انتقلت إلى الألعاب الإلكترونية التي نشتريها لأولادنا ليعتادوا على القتل بضغطة زر، لدرجة أن نجد حادثة المراهق الذي انتحر وشنق نفسه أمام شاشة خلفها من يوجهه للوصول الى لحظة الموت، والمراهق الآخر الذي يتلذذ بمشاهد جريمة قتل حية على مواقع “الدارك ويب” (الويب الأسود)!

فما بالنا بأطفالنا ومراهقينا وشبابنا  الذين ينامون ويستيقظون على شاشة الموبايل، لينقل لهم حياة مثيرة مزيفة على “السوشيال ميديا”- تسببت كما أكدت العديد من الدراسات والأبحاث- في كراهية هذه الأجيال وعدم رضاهم عن حياتهم التي لا تشبه الحياة التي يرونها في عالمهم الافتراضي، وأغلقت شهيتهم عن التعليم الذي لن يوفر لهم دولارات صانعي المحتوى التافه والمصابين بجنون وشهوة “الترند”. 

وعندما أراد الآباء والأمهات الاقتراب من أبنائهم ومشاركتهم التكنولوجيا بناء على نصائح التربويين  الذين بحّت أصواتهم وهم يحاولون حث الآباء والأمهات وأولي الأمر على ضرورة مواكبة العصر بمستحدثاته، وبضرورة ملاحقة عصر التكنولوجيا والتطور الذي يغوص فيه أبناؤنا، فبدلاً من مشاركة الآباء  للأبناء هذه الشاشات، وتفعيل طرق للمذاكرة بشكل إبداعي، والتواصل مع المواقع التي تمنح أوقاتاً من التسلية والترفيه والتعليم والتربية، انفرد الأب والأم بل وأحياناً الجد والجدة بشاشاتهم عبر الهاتف والآي باد واللاب توب، يتنقل كل منهم  بينها منعزلاً، وأصبح أفراد الأسرة، من الطفل الذي يجلس في عربة الأطفال في عامه الأول إلى المسنّ، وجوههم مصوبة إلى شاشة الموبايل، وبدلاً من أن نقترب من أبنائنا ونتواصل مع وسائلهم التكنولوجية، حدث انفجار في استخدامنا اهذه الوسائل، فانفصلنا عنهم، وانفصلوا عنا. 

 ولهث الآباء والأمهات وراء الكسب السريع من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بصناعة محتوى تافه في معظم الأحيان، لصناعة شهرة زائفة، أو ما يسمى “الترند”، الذي من الممكن أن يضحي الإنسان بكرامته وبكيانه وبإنسانيته مقابله، فرأينا الزوج الذي يضحى بخصوصية بيته ويمتهن كرامة زوجته  وربما أمه من أجل الشهرة والمال، ورأينا النصب عبر مواقع التواصل الاجتماعي عمل من لا عمل له، واختلط مفهموم حرية التعبير عن الرأي بالتنمر الإلكتروني وبأية وسيلة، طالما أنك خلف الشاشة، واستخدمت بعض الأسر أطفالهم في صناعة محتوى أدى إلى تعرضهم للتنمر والسخرية من أجل الكسب المادي، وهو استغلال لبراءة الطفل الذي لم ينضج، ويعلم الله وحده مدى التأثير السلبي على صحته النفسية. 
 وبدلاً من أن نجد استخداماً يؤلف بين قلوب أفراد الأسرة، ومتابعة  التطبيقات والمواقع التي تقدم مادة تساهم في الترفيه عن الأسرة مع الارتقاء بمستواها الثقافي والتربوي، وبدلاً من أن نتفرغ لتعليم الأبناء حماية أنفسهم من التحرش الجسدي واللفظي، أصبحنا مطالبين بتعليمهم كيفية حماية أنفسهم من تحرش إلكتروني، وبدلاً من تقنين تعرّضهم لمشاهد العنف عبر الدراما، أصبحنا نشتري لهم ألعاباً يقتلون عبرها بضغضة زر، ثم نتساءل: من أين أتت  حوادث العنف التي يقتل فيها المراهقون زملاءهم في المدرسة؟! أو من أين أتى هذا المراهق الذي يتلذذ برؤية جريمة تقطيع جسد طفل (أون لاين)؟!، ومن أين أتى هذا الاندفاع في معالجة الخلافات المدرسية بالمطواة واستخدام الأيدي في أدنى حالات العنف؟!
إن المناهج العلمية والأدبية واللغات أساس المناهج المدرسية، ولكن أصبح هناك أهمية قصوى لاكتساب وتنمية المهارات التي تعلم الطفل كيف يواجه الواقع ويتعامل مع الحياة ويتخذ القرارات ويواجه الاختبارات الحياتية التي لا تقتصر على الاختبارات المدرسية والجامعية، فهذا جيل يحتاج أن يتعلّم معنى الحرية والتعبير عن الرأي، واحترام الخصوصيات، وضرورة ارتباط الشهرة والنجومية بالأخلاق.
لا شك أن طفل اليوم يحتاج أن يتعلم كيف يدرك الرسائل المخفية كالسم في العسل في أفلام الكارتون التي تدعو إلى سلوكيات شاذة بعيدة عن الفطرة التي فطرنا الله عليها. 
إن تنمية واكتساب المهارات الحياتية ليسا رفاهية.. وغياب هذه المهارات التي يجب أن يكتسبها الطفل تدريجياً يدق ناقوس الخطر، ولا أعرف إلى من تشير أصابع الاتهام في غياب منظومة ورؤية واضحة بأهمية هذه المهارات.. إلى الأسرة التي تختلف درجة تعليمها وثقافتها والتي تأنّ تحت ضغوط الحياة اليومية، أم إلى المدرسة التي يجب أن تنتبه في ظل مبادرة (بداية جديدة لبناء الإنسان) إلى الالتزام بتنمية مستدامة للعنصر البشري  الذي يتعامل مع طفل اليوم الذي هو أمل المستقبل، أم إلى الإعلام الذي أصبح كما يقولون  -مدرسة الشعوب- والذي يجب أن يدعم نشر هذه المهارات الحياتية ويسلط الضوء على أهميتها، أم إلى منتجي الدراما وأفلام الكارتون والأفلام السينمائية التي يجب أن تكون مصادر للتسلية والترفيه وفي نفس الوقت ترتقي بالمواطن منذ نعومة اظفاره، وأن تتعاون في نشر ثقافة مجتمعية حريصة على قيم إنسانية عالمية فطرية لا يختلف عليها أحد! 
هناك مثل إفريقي يقول: إذا أردت أن تربي طفلاً فيجب أن تشارك القرية كلها في تربيته.. وما أحوجنا إلى تطبيق هذا المثل على حياتنا الواقعية الآن. وللحديث بقية…

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *