إنما الحق شاء وإنما نحن حامدون ماثلون

صورة واتساب بتاريخ 1446 10 26 في 14.39.33 2b7aa973 Copy

إنما الحق شاء وإنما نحن حامدون ماثلون

بقلم الدكتورة/ بلسم عبد الحميد احمد القارح

مدير مكتب الأثارالاقليمي -البحر الأحمر

مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث- السودان 

 

WhatsApp Image 2025 02 21 at 05.57.01 c2e88c2d


قالت لي صديقتي عبر الأثير في مساءٍ شفيف الحزن غارقٍ في الذكرى حنيني إلى المتحف لا يهدأ كأنّ بين الجدران أنفاسي، وفي كل قطعة أثر، ظلّ إحساسي.”كنا قد تفرّقنا، كلٌّ في ديار، نتبادل أشواقنا عبر الهاتف، نرمم المسافة بالكلمات.ثم برهة سألت بهمس كأنها تخشى الجواب: “وأنتِ؟ ماذا يسكن قلبك؟” فابتسمتُ…وقلتُ : أين أنا منك ؟  فأنتِ يا رفيقتي لكٍ من اسمك كل النصيب وقد وهبتِ من الإخلاصٍ وكرمِ الشعور ما جعل الحنينَ جذوةً لا تنطفئ في صدركِ.” أما أنا ؟.. ؟.و ساد بيننا صمتٌ قصير،كأن الكلمات تلتقط أنفاسها،أو كأن الحنين خشي أن يُقال أكثر…أما أنا…فسأكتب، عني وعنك، علّ الحروف تطفئ شيئًا من لهيب صدرينا،أو لعلّها توقظ في الآخرين ما خبأه الوقت من شوقٍ وأنين وحنين.

في تلكم اللحظات أتاني صوت من مقهى مجاور آه  كوكب الشرق صوت يحمل بين طياته كل الشوق الذي لا تنقضه الأيام جاء ليترجمني في كلمات  فكتبت :- إلى إخلاص الكرم هذا ردي مع مودتي بعض الأماكن لا تمر في حياتنا مرور الذكريات بل تترسخ فينا كأنها كُتبت في أرواحنا جينات. متحف السودان القومي لم يكن بالنسبة لي مجرد مقر عمل أو مؤسسة ثقافية، بل كان مرآة لروحي، وصوتًا خافتًا يناديني في أعماق كل لحظة أبتعد فيها عنه. فيه قضيت سنوات عمري بين القطع الأثرية والنقوش القديمة أتنفس التاريخ وأحاور الزمن. وفي بُعدي عنه اليوم يعود إليّ صوته خافتًا، حزينًا، لكنه حي…   كيف ذاك الحب أمسى خبرًا وحديثًا من أحاديث الجوى؟ 

كيف أصبحت تلك الحياة النابضة بين جدرانه ذكرى تلوح من بعيد وكأنها حلم جميل انقضى؟

كل ثانية تمر بعيدًا عن المتحف تحرقني لا لأنني أفتقد مجرد روتين يومي بل لأنني أفتقد جزءًا مني جزءًا تشكل في ظلال الأعمدة النوبية وتحت عيون التماثيل التي شهدت على حضارات لا تموت.  

وحنيني إليكِ يكوي أضلعي، والثواني جمراتٌ في دمي  هذا الحنين ليس مجرد شعور، إنه احتراق بطيء اشتعال مستمر في القلب والذاكرة. ورغم أنني أحاول أن أتماسك أن أتظاهر بالنسيان إلا أن التذكّر دائمًا أقوى، أقسى، أصدق. وإذا ما التأم جرحٌ جدّ بالتذكار جرحٌ… فتعلم كيف تنسى… وتعلم كيف تمحو. لكن، كيف يُمحى مكان عشناه بكل حواسّنا؟ كيف يُنسى وطنٌ صغير كان بيتًا ومتحفًا ومدرسة ومرآة لذواتنا؟

لقد تأسس متحف السودان القومي عام ١٩٧١ عند ملتقى النيلين، وكان من أبرز معالم الخرطوم، حاضنًا لأكثر من مئة ألف قطعة أثرية تمثل مختلف الحقب من ما قبل التاريخ إلى العصور الإسلامية. بين جدرانه تنقلتُ بين معروضات حضارات كوش ومروي ونبتة، وبين تماثيل الجدود ولوحات دنقلا الجدارية. لكن تلك القاعات التي كانت تنبض بالحياة، لم تسلم من أهوال الحرب التي اندلعت في ٢٠٢٣، حيث نُهبت محتوياتها وتعرض المتحف لأضرار جسيمة، مما شكّل جرحًا عميقًا في ذاكرة التراث السوداني.

انحنيتُ لوجعي، أتصفح دهاليزه في مخيلتي، تسربت الدموع كأغنية قديمة، تتردد بيني وبين جدرانه، وهمست: هل تُعيدني الأيام إلى تلك القاعات، إلى صدى الخطى، إلى الهنهنات التي كنت أسمعها من كل قطعة أثرية؟  يا حبيبي.. كل شيءٍ بقضاء، ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقا..  فلا تقل شئنا، فإن الحظ شاء.. إنما الحق شاء…هكذا أعيش اليوم، ما بين أمل اللقاء وواقع الفراق، أردد في قلبي كلمات غنّيتها يومًا للمكان الذي أحببته بصدق ولعل اللقاء ليس فقط عودة إلى مكان، بل عودة إلى الذات وإلى كل ما كنّاه هناك في صمت القاعات وهمس الآثار. فبعض الأماكن لا تسكننا فقط، بل تُعيد تشكيلنا من جديد “أنت عمري. يا أمل حياتي.غدًا ألقاك؟”


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *