
استدعاء روح الأسطورة في "أنتونيلا" مني عاشور : دراسة نقدية
بقلم الكاتبة / أمينة الزغبي

تتجسد الميثولوجيا اليونانية القديمة في مجموعة كبيرة من الروايات؛ فنجد بعض الكُتاب يشير إليها صراحةً مستعينًا بتلك الأساطير المشوقة بشخوصها وما تحمله من أسماء، في تضافرٍ سردي بينها وبين الواقع الحالي، مثل الأديب الدكتور شريف عابدين في روايته “لعبة أفروديت”، وكذلك في رواية “رحلة آدم” والبعض الآخر يتخذ من تلك الأساطير مصدرًا للإلهام دون الإفصاح عن ذلك، تاركًا التأويل، والكشف عن هذا التناص للقارئ الذي يمكن أن يتلمس هذا الأمر حينما يطالع الرواية بين يديه، وهذا ما سوف يُدركه القارئ أثناء مطالعته لرواية “أنتونيلا” للكاتبة مني عاشور، حيث تصيبه الشخصية الرئيسة في هذه الرواية بالدهشة؛ لتعلقها المرضي بوالدها، مما يجعل الذاكرة تستدعي ما أطلق عليه عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد “عقدة أُديب الأنثوية” والتي أطلق عليها العالم “يونج” بعد ذلك اسم “عقدة إليكترا”.
وعقدة إليكترا هي مصطلح أطلقه العالم “كارل يونج” عام 1913 لوصف النسخة الأنثوية من عقدة أُديب التي أطلقها سيجموند فرويد على الأنثى باسم “عقدة أُديب الأنثوية”، وهي مصطلح تحليلي نفسي، يُستخدم لوصف التعلق اللاواعي للفتاة بوالدها بصورة شديدة جدًا، تُوصف بأنها مرضية، وتبدأ بين عمر ثلاث إلي ست سنوات، والتنافس مع والدتها على مشاعر أبيها.
تم أخذ الاسم من الميثولوجيا الإغريقية القديمة، من أسطورة “إليكترا” التي حاولت إقناع أخيها أوريستيس بالثأر لمقتل والدهما أجاممنون، لقتل والدتهما كليتمنيسترا وعشيقها إيجيسثوس، وذلك لأنهما كعاشقين تشاركا معًا في قتل الزوج بعد عودته من حصار طروادة.
أولًا: الدلالة اللغوية لعنوان الرواية “أنتونيلا”
دعونا أولًا نتوقف أمام هذه اللفظة اللغوية المفردة “أنتونيلا” التي اتخذتها الكاتبة عنوانًا لروايتها، فهي اسم من الأسماء غير العربية، وبالكشفِ عنه في معجم الأسماء العربية والأجنبية؛ وُجد أنه إحدى صيغ الاسم أنتونيا المأخوذ عن اللاتينية بمعنى ” نفيس ولا يقدر بثمن”.
والمدهش أننا حينما ندلف إلى المتن السردي لرواية أنتونيلا للكاتبة “مني عاشور” لا يطالعنا هذا الاسم للشخصية الرئيسة بها مثلًا، أو حتى أحدي الشخصيات الثانوية، أو المساعدة، وهو ما يوحي بأن أهمية هذا الاسم تكمن في دِلالته اللغوية، والتي استخدمتها الكاتبة كرمز تشير به إلي هذا الشخص “النفيس الذي لا يقدر بثمن”، وهو من تعلقت روحها به، ولم تفصح عن ذلك بالقول، لكنها تركت الأحداث هي التي ترشد القارئ إلي ذلك؛ فعليه أن يبحث عنها بين ثنايا البنية السردية للرواية متسائلًا: ما هو المقصود بالنفيس والذي لا يقدر بثمن في هذه الرواية؟ مما يمنح هذه العتبة الأولي للرواية أهمية كبري في التشويق لقراءتها كما أشارَ إلى ذلك “رولان بارت”.
ثانيًا: بنية الرواية السردية:
استطاعت الكاتبة “مني عاشور” أن تضع القارئ أمام شخصية يغمرها الحنين لماضٍ يؤرقها.. تحاول الهروب منه؛ علها تشعرُ بالراحة، ويبدو ذلك منذ بداية السرد في الرواية، حيث الفقرة الأولي التي جاء فيها على لسان الراوي العليم ص 9 ما يلي:
(لا تستطيع أناملها ملامسة أجمل الأشياء في حياتنا الأولي؛ لكنها تلامس أرواحنا.. رائحة التراب المُبلل ورائحة المطر يسودان الذاكرة.. كان يومًا مختلفًا.. استيقظت بقلبٍ منقبض، تتشابك دقاته مع صوتِ المطر خارج نافذة حجرتها، ليوقظا الحنين في روحها الطفولية.. تخلت عن روتينها اليومي، وقررت ارتداء ملابسها والخروج لهذا الجو الساحر لعل قلبها يشعر بالراحة).
إذا نحن أمام شخصية تشعر بالقلق، تحمل حنين لماضٍ يثقل ذاكرتها، ويضعها في حيرة، تجعلها تتلمس الراحة التي غابت عنها، بغياب من شكلوا هذه الذاكرة بروحها الطفولية المُفتقَدة.
اتكأت الكاتبة في رسمها لهذه البنية السردية للرواية على خطين متوازيين ألا وهما:
الخط الأول: خاص بالشخصية الرئيسة “ليلي” التي تدور حولها الحبكة الرئيسة للرواية.
الخط الثاني: خاص بشخصية “عاصم فؤاد” تلك الشخصية التي رسمت لها الكاتبة حبكة خاصة، لا نستطيع أن ندعي أنها تدور في فلك الحبكة الرئيسة للرواية، لكنها تسير معها في توازٍ يجعلهما لا يتقاطعان، ولا يلتقيان، لكن المدهش أن القارئ سوف يكتشف من خلال بنية السرد، أن الكاتبة “مني عاشور” نجحت في “إيهامه” بهذا التوازي، وعدم التلاقي بين الشخصيتين، وذلك حينما يُدرك في نهاية الرواية أن “عاصم فؤاد” ما هو إلا والد “ليلي”، الذي أحبته حبًا سيطر علي كيانها، وتسبب في معاناتها الحياتية، خاصة بعد وفاته، وعدم اقتناعها بأنه رحل عن عالمنا؛ فظلت تكتب له الرسائل الورقية، وتعلقها علي جدران المنزل، وهي تصرخ باسمه، وتناجيه أن يأتي ليأخذها معه؛ مما دفع بها للذهاب إلي “طبيبٍ نفسي” فهي لا تعترف بمن حولها من الأحياء حتي تشكو لهم مشكلاتها، وما تتعرض له من إزاء من قبل زوجها “سامر”.. واللافت هنا أن والدتها ما زالت على قيد الحياة، لكنها لم تلجأ إليها للشكوى أو للمساعدة ولو لمرة واحدة كما ورد بالرواية، بل إن ما تحمله البنية السردية للرواية من “نوستالجيا” وذكريات للماضي، جاءت كلها مع الوالد فقط، ولو كان المعروف أن البنت دائمًا تميل إلى والدها أكثر من والدتها، فكما يقولون ــ البنت حبيبة أبيها ــ لكن حب ليلي لوالدها تعدي المنطق، والمعقول، بل وأصبحت تتجاهل والدتها ولا تذكر عنها إلا الأمور التي تراها سلبية من وجهة نظرها هي فقط؛ لأن “ليلي” لم تعترف في الأصل بوفاة والدها، ولم تُصدق من يخبرها بذلك، حيث تقول الكاتبة علي لسان الراوي العليم ص 18:
(تفقدت حجرة أبيها.. ملابسه، أشياءه، وأدويته، تحكي لنفسها أنها بانتظاره فهو قادم!).
ثالثًا: الزمكانية في الرواية:
الزمان والمكان يساهمان في بناء الرواية من خلال تحديد إطار الأحداث، وتوفير الخلفية التاريخية والاجتماعية لها، وإضفاء الطابع على الشخصيات، وتحديد علاقاتها ببعضها البعض، وإثراء الدلالات المعرفية بها، والعلاقة بين الزمان والمكان في رواية “أنتونيلا” علاقة توظيفية، حيث يُستخدم الزمان والمكان لإضفاء دلالات معينة، يتضح هذا من خلال العناوين الجانبية التي اتخذتها الكاتبة “مني عاشور” في بنيتها السردية للرواية، والتي تشير للقارئ إلى العلاقة بين فترة زمنية مُحددة، ومكان بعينه، وهو الإسكندرية كما ورد بالرواية، مثل:
(شتاء الإسكندرية 2000م ص 9)
(الإسكندرية السادس من أكتوبر 1940 ص 11)
ويُمثل الفضاء السردي في رواية “أنتونيلا” “كمكان” أهمية كبري؛ حيث تجولت بنا الكاتبة بين أحياء، وشوارع الإسكندرية الجميلة، وخاصة الأماكن القديمة، وأسماء المحلات، والمطاعم، والأماكن الأثرية، والبنايات القديمة التي تحمل طابع من قاموا بإنشائها من الجاليات المختلفة، والحديث كذلك عن الاسكندر الأكبر الذي بني الإسكندرية القديمة، وأطلق عليها اسم “راقوده” أو “راكوتيس” ونذكر هنا على سبيل المثال ما جاء على لسان الراوي العليم صــ138 حيث يخرج عاصم مع ابنتيه للتنزه في حدائق الشلالات فيقول:
(يأخذ البنتين ليذهب معهما إلى حدائق الشلالات، لا يقتصر الخروج على زيارة الحديقة فحسب، إنما تشمل محطة الرمل، وشارعي سعد زغلول، وصفية زغلول والسلطان حسين، مرورا بشارع فؤاد، وفي اثناء تمشيتهم يتوقف بهم عاصم عند محل للحلوى للخواجة “ألبير” لتختار كل منهما ما تحب من الحلوى اليونانية، والأمريكية، والفرنسية، فمعظم الحلوى بمحطة الرمل تأتي من دولٍ عديدة).
ليست الأطعمة والحلوى فقط، لكن الأبنية أيضًا أضاءت عليها الكاتبة من خلال السرد، فنجدها تشير إلى ذلك على لسان الراوي العليم، حينما يشرح عاصم لابنتيه النقوش البارزة على واجهات الأبنية ذات الطابع المعماري المميز، ما بين طابع معماري طلياني، أو روماني، أو يوناني؛ مما يوحي للقارئ بما تتسم به الإسكندرية من كوزموبوليتانية تميزها عن سائر مدن مصر.. هذا المكان الذي كان له أثر التفاعل مع بقية العناصر الأخرى، لا سيما الشخوص والأحداث، ومدي تفاعلها من خلال البنية السردية للرواية.
إذا تطرقنا إلى “الزمن” فسوف نجد أن زمن القصة قد امتد في الرواية من عام 1940 إلى عام 2021 أي أكثر من ثمانين عامٍ بعام، والذي اعتبرته الكاتبة مجرد إطار عام للأحداث.
اتكأت الكاتبة “مني عاشور” في تشكيل بنيتها السردية على تقنية “الاسترجاع الزمني” أو ما يسمي بلغة السينما “الفلاش باك”، وهي التقنية الزمنية المناسبة للسرد القائم على النوستالجيا والحنين للماضي، واللافت أن الكاتبة اتخذت من التواريخ الدالة على الزمن عناوين جانبية لمعظم فصول روايتها، التي جاء بعضها دون تحديد لعنوان أو إشارة إلى رقمٍ ما، كما استخدمت أيضًا تقنية “الاختزال الزمني” أو “القفزات الزمنية” ولنأخذ مثال صــ 142
حيث عنونت الكاتبة الفصل بتاريخ “فبراير 2004” تتحدث فيه عن عقد قران سامر وليلي..
ثم يطالعنا الفصل التالي تحت عنوان بتاريخ “مارس 2014” صــ 162
حيث تعاني ليلي بعد زواجها من سامر، وعدم تكيفها نفسيًا معه؛ فتلجأ إلي الطبيب النفسي، وهذه تعتبر قفزة زمنية مدتها “عشر سنوات” تخطت بها الكاتبة الأحداث في الرواية.
رابعًا: اللغة:
تراوحت لغة الكاتبة في السرد والحوار في رواية “أنتونيلا” ما بين الفصحى تارة، واللهجة العامية تارة أخري، التي استخدمتها الكاتبة بصورة أعم وأشمل خاصة في الحوار، حيث جاء مطولًا في بعض فصول الرواية، وبالتحديد الأخيرة منها، وعلى سبيل المثال:
نجد الحوار الذي دار بين “ليلي والطبيب النفسي” والذي امتد من صــ 163 إلى صــ176.. أي ثلاث عشرة صفحة.
أما العبارات التي كتبتها ليلي، وكانت تقوم بلصقها على الحائط، اتخذت فيها الكاتبة اللهجة العامية، فعلي سبيل المثال نذكر منها ما ورد على لسان الراوي العليم في صــ191 حيث يقول:
(أصبحت تكتب على الورق كلمات بغضب شديد، منهارة من البكاء غير واعية.. بابا خدني معاك ــ أنا كل يوم بستناك ــ وأنت مش بتيجي ــ وحشتني أوي ــ أنا محتاجالك ــ أنا حجيلك).
تختتم الكاتبة روايتها بخاتمة مفتوحة، تفتح لها الأفق على كتابة جزءٍ ثانٍ، تستطيع أن تقدم فيه للقارئ الإجابة على تساؤلات كثيرة حول هذه الشخصية، أهمها: وماذا بعد ذلك؟
نستطيع في النهاية أن نقول، أننا أمام رواية نفسية واقعية، قدمت فيها الكاتبة مني عاشور للقارئ تجربة إنسانية تحمل هذا المعني، ولا يعنينا هنا إن كانت تلك التجربة حدثت بالفعل، أم أنها تخييليه من وحي خيال الكاتبة، لكن الأهم هو أننا أمام تجربة روائية، لكاتبة واعدة، قدمت للقارئ رواية تحمل الكثير من الرسائل المضمرة منها:
أنه يجب علينا كآباء وأمهات أن نهتم بملاحظة بناتنا الصغيرات في تصرفاتهن، ولا نتهاون في تعلقهن المفرط بآبائهن، وتنافسهن مع أمهاتهن للحصول على الاهتمام الأكبر من الآباء، حتى لا يتحول هذا التعلق إلى مرضٍ نفسي، ونصنع بأيدينا “ليلي” جديدة تشبه بطلة “أنتونيلا” مني عاشور…