*الأدب بوصفه اختبارًا لقدرات اللغة:* *تأمل لُساني في العلاقة بين البنية والمعنى*

صورة واتساب بتاريخ 1446 12 29 في 13.57.34 ece8dab4

الأدب بوصفه اختبارًا لقدرات اللغة: تأمل لُساني في العلاقة بين البنية والمعنى

بقلم الأستاذة/ ذكرى زيد- الأردن

 

 

صورة واتساب بتاريخ 1446 12 22 في 15.34.45 dfe8d428
 
منذ أن بدأتُ دراستي في علم اللغة (Linguistics)، كنتُ أرى اللغة كنسقٍ بنيوي محكم له قوانينه، ومستوياته، وأدوات تحليله، وكلما توغّلت أكثر في هذا العلم ازداد انبهاري بقدرة الإنسان على بناء المعنى من خلال هذا النظام الرمزي العجيب.
ومع أن معظم دراستي تركز على البنية والتحليل اللغوي من زاوية علمية، إلا أنني لطالما شعرت بانجذاب خاص تجاه الأدب بوصفه شكلاً من أشكال اللغة “المتحررة” من القيود، أو كما يمكن أن أقول: اللغة وهي في أقصى درجات حريتها التعبيرية.
 
هذا الفضول الشخصي، وهذه المسافة المدهشة بين ما أدرسه من قواعد لغوية وما أقرأه في الأدب من انزياحات وابتكار لغوي، هي ما دفعتني لأتوقف، وأتساءل، وأبحث:
كيف يتعامل الأدب مع اللغة؟
وهل يبقى النظام اللغوي على حاله حين يُستخدم في الأدب؟
أم أن الأدب يُعيد تشكيل هذا النظام في كل مرة يُكتب فيها نصٌ جديد؟
 
ومن هنا بدأت رحلتي كباحثة في هذا الموضوع.
 
لماذا كتبتُ هذا النص؟ ما الذي ألهمني؟
ليست هذه الورقة مجرّد تمرين أكاديمي، بل هي نتيجة تراكُم أسئلة وتأملات عشتُها خلال مسيرتي كطالبة في علم اللغة. فأنا أرى نفسي دائمًا بين عالمين: عالم القواعد والتحليل البنيوي، وعالم الإبداع والانزياح الأدبي.
 
هناك دوافع عدّة ألهمتني للكتابة في هذا الموضوع:
 
• أولاً لأني أؤمن أن اللغة ليست مجرّد وسيلة للتواصل، بل هي مرآة للفكر، والأدب يُعطينا الفرصة لنرى هذه المرآة بأكثر صورها إشراقًا وتكسّرًا في آنٍ واحد.
 
• ثانيًا لأنني كطالبة في اللسانيات، أبحث دائمًا عن لحظات تصطدم فيها النظريات الجافة مع التجربة الحيّة، والنص الأدبي هو ذلك المكان الذي تتحرّك فيه المفاهيم النظرية وتُصبح ملموسة.
 
• ثالثًا لأنني أُدرك أن الأدب يختبر حدود اللغة، ويكشف عن مدى مرونتها وإبداعها، وهذا ما يجعلني أعود دومًا إلى النصوص الأدبية ليس كقارئة فقط، بل كلسانية تُصغي لنبض اللغة وهي تتشكل من جديد.
 
كتبت هذا النص لأنني مؤمنة أن كل دارس للغة عليه أن يرى الأدب لا كاختلاف، بل كامتداد، لا كحالة خاصة، بل كذروة الإمكان اللغوي.
 
 
نقطة البداية: شعورٌ لغوي لا يُحلل بسهولة.
 
في إحدى المرات قرأت بيتًا شعريًا بسيطًا يقول فيه الشاعر:
 
“وأبكي على ما لم يكن كأنه كان”
 
ولم أكن أستطيع تفسير هذا الأثر الذي تركه البيت في نفسي، رغم بساطته اللغوية. شعرت بأن هناك شيئًا يتجاوز المعنى السطحي للكلمات. اللغة هنا ليست فقط أداة نقل، بل هي بنية معقّدة للزمن، والافتراض، والوجدان، تُصاغ بطريقة تجعل القارئ يشارك في تشكيل المعنى.
 
لم أستطع أن أُسكت صوت اللسانية داخلي، فسألت نفسي:
كيف استطاع هذا الشاعر أن يستخدم اللغة ببنية مألوفة لكن دلالة غير مألوفة؟
هل هذه الجملة “صحيحة لغويًا”؟ نعم، لكنها تحمل من التأويل أكثر مما تحمله من التقرير.
ومن هنا أدركت أن النصوص الأدبية تختبر قدرات اللغة لا على “نقل المعنى”، بل على توسيع المعنى، وعلى توليد إحساسٍ لا تخلقه الجملة العادية.
الأدب لا يكسر اللغة… بل يكشفها
 
من خلال قراءاتي ومن ملاحظتي كطالبة لعلم اللغة لاحظت أن الكثير من المفاهيم اللسانية تُصبح حيّة حين نُسقطها على النصوص الأدبية:
 
• فالأدب لا يلغي قواعد النحو لكنه يلعب بها.
• لا يتجاهل الدلالة لكنه يزيد من احتمالاتها.
• لا يُبطل البنية بل يُحركها في اتجاهات غير متوقعة.
 
في القصيدة تصبح الجملة غير المكتملة أداة تعبير.
وفي الرواية، تتحول التكرارات إلى رموز.
وفي القصة يمكن لصيغة المبني للمجهول أن تفتح أبوابًا فلسفية عميقة عن الغياب والتأمل.
 
كل ذلك جعلني أقتنع كباحثة أن الأدب هو أعلى اختبار مرّ به النظام اللغوي.
ولم يعد السؤال في نظري: “كيف نُحلل النص الأدبي؟”بل أصبح:
“كيف يكشف النص الأدبي عن الطبيعة المرنة والعميقة للغة؟”
 
ملاحظات لسانية من تجربتي:
 
أثناء دراستي لبعض المفاهيم في علم اللغة، بدأت ألاحظ كيف يظهر أثرها جليًا في النصوص الأدبية. من ذلك مثلاً:
1.الانزياح الدلالي (Semantic Deviation):
حين تستخدم الكلمة بمعنى غير متوقّع، فيُفتح الباب للتأويل الجمالي، وهذا أكثر ما يميز الشعر.
2.التكرار البنيوي (Structural Repetition):
كما في قوله: “لا شيء… لا أحد… لا وطن!”
هذه البنية المتكررة تعكس توتّرًا داخليًا يُصاغ بلغويًا.
3.الغموض المقصود (Intentional Ambiguity):
وهو عندما يكتب المؤلف جملة يمكن تفسيرها بطريقتين، وكأنه يدعو القارئ للمشاركة في صناعة الدلالة.
من خلال هذه الملاحظات، أدركت أن الأدب لا يستخدم اللغة فقط، بل يكشف عن إمكانياتها الدفينة.
وهذا أمر شديد الثراء لدارسي علم اللغة مثلي.
 
من قراءاتي: دعم فكري لرؤيتي
 
في رحلتي البحثية، وجدت كتابًا ثمينًا دعّم رؤيتي هذه، وهو:
Roger Fowler – The Language of Literature (1971)
حيث يطرح فاولر فكرة أن اللغة في الأدب لا تُستخدم مثلما تُستخدم في الكلام اليومي، بل تتعرّى وتنكشف أمام القارئ، وتُبرز كل قدراتها.
 
يقول فاولر في أحد فصول الكتاب:
 
“الأدب ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو لحظة مواجهة بين اللغة ونفسها.”
 
هذا المعنى العميق فتح أمامي أبوابًا كثيرة للتأمل والتحليل.
 
 
من هذا كله خرجت بقناعة شخصية كباحثة أن العلاقة بين الأدب واللغة ليست علاقة استخدام بل علاقة اختبار وتأمل وتحول.
وأن الأدب هو المجال الذي يمكن أن نرى فيه اللغة وهي تجرّب نفسها، وتعيد تعريف قواعدها، دون أن تفقد هويتها.
 
وأنا ذكرى أكتب هذا النص لا لأُدرّس الأدب بل لأقول من موقع دارسة اللغة:
اللغة ليست آلة جامدة بل كائنٌ حي يتنفّس داخل الشعر ويتمدد داخل الرواية ويتحوّل إلى إحساسٍ ناطق داخل الجملة الأدبية.
 
وهذا ما يجعلني أؤمن أن الأدب ليس مادة مساندة لعلم اللغة بل جزء منه وشاهد عليه وامتدادٌ لروحه.

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *