
الأوتوبيوغرافيا الشعورية بوصفها احتجاجًا أدبيًا دراسة ذرائعية في قصيدة "غضبٌ يكتبني" للكاتبة عشتار
بقلم الناقدة الدكتورة/ عبير خالد يحيي

• مقدمة:
تجاوز الأدب المعاصر التصنيفات الكلاسيكية للنوع والسرد، لينفتح على أشكال هجينة تنبع من الذات وتعود إليها. ولم يعد مفهوم الأوتوبيوغرافيا مقتصرًا على السير الذاتية بالمعنى التقليدي، بل بات يشمل كل كتابة تعيد الذات صياغة حضورها من الداخل، سواء أكانت سردًا أو شعرًا أو قصيدة نثر.
وفي هذا السياق، تأتي قصيدة “غضبٌ يكتبني” للكاتبة عشتار كنموذج لما يمكن تسميته بـ (الأوتوبيوغرافيا الشعورية الاحتجاجية) ، حيث تكتب الذات عن انفعالها لا عن وقائعها، وتُقدّم غضبها لا كمجرد حالة شعورية، بل كـموقف جمالي وفلسفي من العالم.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل النص وفق منهج النقد الذرائعي، عبر مستوياته السبعة، للكشف عن بنية النص النفسية، الفكرية، التداولية، والجمالية، وتبيان كيف تتحول الكتابة هنا إلى مقاومة داخلية ضد التزييف، ووسيلة لفهم الذات المتمزقة.
• المستوى الأول: البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
البؤرة الفكرية للنص تتمثّل في إعلان القطيعة مع الأطر الأدبية التقليدية، ومع مواضيع “العشق، الحرية الزائفة، التصوّف المكرّر”، لصالح كتابة وجودية تستمدّ مشروعيتها من الشعور الخام. تقول الكاتبة:
“أنا لا أكتب عن العشق… أكتب لأن في داخلي طوفاّنا…”، مما يجعل الغضب هو الجوهر والمحرك.
الخلفية الأخلاقية تنبثق من رفض التواطؤ مع الزيف، ومواجهة النفاق المجتمعي، ومحاسبة الذات والعالم معًا. هي كتابة لا تبحث عن التجميل، بل عن مواجهة الحقيقة كما هي، حتى لو كانت دامية.
• المستوى الثاني: المستوى اللساني واللغوي
تقوم اللغة في النص على الإيقاع الداخلي والتكرار البنائي:
“أنا لا أكتب…”
“أكتب لأنني…”
هذا التكرار يُؤسس لحالة شعورية تصاعدية، ويخلق موسيقى داخلية بالرغم من غياب الوزن والقافية.
اللغة هنا شعرية/اعترافية، تجمع بين التقنية النثرية والانفعال الشعري.
كما تتكرّر الاستعارات ذات الطابع العنيف: (شظايا، لغم، مرآة مكسورة، سكين، جرح…)، ما يمنح النص طابعًا تعبيريًا ساخطًا.
• المستوى الثالث: المستوى الديناميكي
يتطوّر النص من مرحلة النفي (لا أكتب عن…) إلى مرحلة الإثبات (أكتب لأن…)، وصولًا إلى الذروة التعبيرية في مقاطع الغضب والانفجار.
هذا التطور يُجسّد رحلة داخلية للذات تبدأ من الحيرة وتنتهي بالمواجهة.
الحركة الشعورية في النص تشبه طوفانًا يرتفع تدريجيًا، ويهدّد بانهيار الحواجز بين الداخل والخارج، حتى تصل الكاتبة إلى مرحلة:
“أكتب لأضع العالم في مواجهة مرآتي المكسورة.”
• المستوى الرابع: المستوى النفسي
النص بأكمله يُقرأ كحالة تفريغ انفعالي أو كتابة – صرخة.
مدخل التقمص: الكاتبة تتقمّص ذاتها المجروحة كمحرّك سردي: هي لا تلعب دورًا دراميًا، بل هي “السكين” نفسه.
مدخل التساؤل الفلسفي: “أريد أن أفهم هذا الغضب…” — هنا يظهر الصراع بين الذات المنفعلة والذات العارفة.
مدخل الاعتراف الوجداني: “أكرهكم وأحبكم في آنٍ واحد” — ازدواجية شعورية تعكس تمزّق الذات.
يُحيل النص نفسيًا إلى شخصية كاتبة في أزمة وجدانية وجودية، لا تهدأ إلا عبر البوح والكتابة.
• المستوى الخامس: المستوى التداولي
يحمل النص شحنة خطابية عالية، توجّهها الكاتبة نحو الآخر المجهول/المجتمع/القارئ/السلطة.
الضمير “أنتم” يُستخدم كشكل من أشكال المحاكمة الأخلاقية:
“من كل يد تصافح الكذب، من كل عين ترى الحقيقة وتهرب…”
الخطاب هنا ليس تواصليًا بالمعنى الهادئ، بل مواجهة مباشرة، صادم، كاشف.
الكتابة تتحوّل إلى ساحة صراع، يكون فيها النص “لغمًا” والقارئ “هدفًا”.
• المستوى السادس: التجربة الإبداعية
تُظهر الكاتبة تمكّنًا من أدوات التعبير الحر، واستثمارًا جريئًا لتقنيات قصيدة النثر، دون الوقوع في التشتت أو الارتجال.
تبدو الكتابة فعلًا وجوديًا محكومًا بالاضطرار لا بالرغبة الجمالية، كما يظهر في قولها:
“أكتب لأنني لا أعرف كيف أعيش دون أن أضع العالم في مواجهة مرآتي المكسورة.”
هنا تتحقّق الكتابة كخلاص شخصي وكفعل احتجاجي في آن.
• ملاحظات عامة
– جمالية الصدق: النص لا يتجمّل، بل يعرّي.
– المجاز التصادمي: الاستعارات عنيفة تعكس انفعالات مكبوتة.
– البنية: رغم العفوية الظاهرة، إلا أن البنية محكمة تصاعديًا.
– المعجم: يحفل بمعجم الاحتجاج والألم والمواجهة: (الغضب، الشظايا، الكذب، القفل، الحرب، المرآة المكسورة…).
– الهوية النصية: هوية نسوية واضحة، لكن غير خطابية أو شعاراتية، بل قائمة على العمق الشعوري.
• خاتمة:
في قصيدة “غضبٌ يكتبني”، تُحوِّل الكاتبة الغضب إلى بيان شعري، والكتابة إلى أداة لزعزعة المعايير المتكلّسة، لا تُنظم الكلمات لتكون جميلة، بل لتكون حقيقية ودامية.
وهذه الكتابة ليست مجرد تعبير عن الذات، بل هي تشكيل الذات من جديد، في مواجهة عالمٍ لا يحتمل الصدق.
وعبر المنهج الذرائعي، تتكشف لنا طبقات النص العميقة: الفكرية، النفسية، التداولية، الجمالية، لتُثبت أن قصيدة النثر، حين تكتب من الداخل، تصير أوتوبيوغرافيا روحية وصرخة فنية في آن.
• نص القصيدة :
غضبٌ يكتبني
أنا لا أكتب عن العشق،
ولا عن الحرية التي تسقط من أصابع الريح،
ولا عن الفلسفة التي تنتحر في زوايا المعابد،
ولا عن التاريخ الذي يضحك علينا
بوجوه أبطاله المصطنعة.
أنا لا أكتب عن تلال الكتب،
ولا عن التصوّف الذي يدور حول نفسه كدرويشٍ أضاع الجواب،
ولا عن الشعر الذي يختبئ في جيوب التبانة.
أنا أكتب لأن في داخلي طوفاناً
لا تعرف الأرض كيف تهدّئه.
غضبٌ يركض في عروقي كذئبٍ جائع،
غضبٌ لا يكتفي بالصمت.
أبثُّ كلماتي بلا قيود،
أسكبها عاريةً من كل رداء،
تنثال كما هي،
لا أرتبها، لا أُخفي زلاتها،
ولا أخشى انحناءها أو قسوتها.
فهناك يدٌ حانية،
تلتقطها بلطفٍ،
تُغربلها كمن ينخل الحلم،
تُبقي ما يستحق الحياة،
وتُطلق الباقي،
كذرات غبارٍ في مهب الريح.
يا لهذا الأمان الذي يحيطني،
حين أكون أنا،
دون أقنعة،
دون خوف،
في حضرة قلبٍ يفهمني،
ويحتويني كما أنا… فقط كما أنا.
أكتب لأن الكلمات شظايا،
كل حرفٍ منها ينفجر في وجوهكم،
كل جملةٍ أزرعها مثل لغمٍ في طريق العالم.
أكتب لأنني غاضبة،
غاضبة منكم جميعاً،
من كل يدٍ تصافح الكذب،
من كل عينٍ ترى الحقيقة وتهرب،
من كل قلبٍ يدفن الحب في قبوٍ مظلم
ويعلّق على بابه قفل الخوف.
أكتب لأنني أريد أن أفهم هذا الغضب الذي يأكلني،
يشعلني كمدينةٍ في الحرب،
يجعلني أكرهكم وأحبكم في آنٍ واحد.
أكتب لأنني لا أريد أن أكون
مجرد كاتبة
أريد أن أكون الصرخة،
الجرح،
السكين.
أكتب لأنني لا أعرف كيف أعيش
دون أن أضع العالم
في مواجهة مرآتي المكسورة.
الكاتبة عشتار