**الاعتلال الاجتماعي والنفسي في رواية ( أوحشتني عيناكِ )* للأديبة المصرية هناء سليمان دراسة ذرائعية مستقطعة*
بقلم الأديبة الدكتورة / عبير خالد يحيي
الرواية، في أبسط تعريف، كتابة نثرية تصوّر الحياة. وهي أكثر الأجناس الأدبية حساسية نحو المجتمع .
وهي مثل الملحمة والقصة القصيرة ” تصوّر في آن واحد أقدارًا بشرية، وكذا المحيط الاجتماعي والطبيعي الذي تحدث فيه هذه الأقدار، لكنها كالملحمة تختلف مع القصة القصيرة في كونها تنزع إلى تصوير الحياة تصويرًا كليًّا Une representation Totale ولا تكتفي بالتقاط أحد جوانبها وعزله إراديًّا باعتباره ظاهرة غريبة أو نادرة ” .
و”النسيج الروائي، كشبكة مؤلفة من شخصيات وحوادث ولغة، إنما يشابه نسيج الوجود الاجتماعي في تكوينه من العناصر إياها، شخصيات وحوادث ولغة، ومن هنا فليس من التعسف أن يجري القارئ تشابهًا، بل ونوعًا من المماثلة بين شخصيات وعلاقات روايات ما، أو بين شخصيات وعلاقات راهن اجتماعي ما، خاصة إذا كانت الرواية تقدم القرائن الدالة، أو كانت صادرة مباشرة عن الراهن الذي تجري المشابهة به أو معه” ، فتغدو بذلك صورة حيّة عن ذلك الواقع.
الأديبة هناء سليمان، نسجت روايتها على ذاك النول وذلك المنوال، فجاء نسجها صورة حيّة عن واقع عام راهن، لكنه يأخذ منحى خاصًّا جدًّا حينما يتدخّل الاعتلال النفسي، راسمًا أثره السلوكي الوخيم على تلك الصورة الواقعية المعتلة أصلًا اجتماعيًّا.
تجنيس العمل:
رواية اجتماعية نفسية.
بؤرة الرواية الفكرية والثيمة:
جاءت الرواية بثيمة رئيسية اجتماعية، ضمن إطار ظاهرة العنوسة في مجتمعنا العربي، وما يلحق بها من آراء ووجهات نظر مجتمعية، وما يترتّب عليها من صراعات نفسية، تتراوح بين الرغبة بتغيّر الأقدار وبين الرضى بها وصولًا إلى مرحلة الأزمة، وما ينتج عن ذلك إجرائيًّا من قرارات صائبة أو خاطئة وصولًا إلى نتائج كارثية، كما حصل مع بطلة الرواية، الأطماع التي تنهش العانس حتى من أقرب المقربين، والتضحيات المقدمة منها للوصول إلى مساحة آمنة، زواج البطلة، من شخص نرجسي، ما أودى بها إلى الوقوع براثن الهشاشة النفسية، أضافت إلى الرواية الاجتماعية ثيمة نفسية.
العتبات البصرية:
من المهم تناولها، لأنها شكّلت، مع متن النص الروائي، نصًّا موازيًا، لا يقلّ أهمية عن المتن الأصلي.
الغلاف الأمامي:
نصّ صوري بصري يختزل بتكثيف شديدة فكرة أو موضوع الرواية، رأس ديك كبير، بألوانه الزاهية وعرفه الأحمر الكبير، ينظر إلى امرأة مظلّلة باللون الأزرق، وجهها بلا ملامح، فقط نظارة قاتمة على العينين، شعر بقصة ( كاريه) وملابس نمطية لامرأة تحمل على كتفها حقيبة يدها، ملتفتة إلى رأس الديك العملاق بتوجس. إن الديك مثال للشجاعة والقوة واليقظة والفصاحة، كما أنه، عند الفرنسيين، رمز للعناد ورفض الهزيمة، وهي صفات واسمة ل ( سيف) الشخصية المعارضة، الذي اصطاد ضحيته ( غادة ) بجملته الفصيحة ( أوحشتني عيناكِ)، وجرأة لافتة عبّرت عنها البطلة :
(خيّل إليها يومًا أنه أرسل لها قبلة سريعة في الهواء ولكنها عادت وكذّبت عينيها. تتعجب من جرأته، وتتعجب أكثر من نفسها… “شاااب! وأنا أحمل على كتفي أعوامًا قاربت الخمسين) ص 13
للون الأزرق مدلول نفسي، فهو لون الثقة والمسؤولية، ومن صفات الشخصية الزرقاء أنها صادقة ومخلصة، تتحمل المسؤولية اتجاه من حولها وتهتم بمساعدة الآخرين، وهي شخصية مخلصة في الزواج ووفية لأصدقائها، اجتماعية، لكنها تمتلك عددًا قليلًا من الأصدقاء محل ثقة، وهي صفات تنطبق تمامًا على بطلة الرواية (غادة)، وقد وفقت الكاتبة تمام التوفيق باختيار عتبة الغلاف لتكون ديباجة بصرية مدركة ومحسوسة ماديًّا ك كتالوج للمتن الروائي.
الغلاف الخلفي:
“تؤنب نفسها على جرأة لم تعتدها، وعلى فرحة لا تجد لها تفسيرًا، تحدّث روحها أن الناس في هذا العمر تنشأ بينهم علاقات إنسانية بيضاء، ليس للمشاعر فيها دور، مجرد اطمئنان على الغائب، مساعدة لطالب العون، مواساة للمبتلى، أيقنت أنها في منطقة آمنة، ثمّ تحيّرت ” لماذا لا أنام؟”.
فقرة سردية مأخوذة من المتن بدراية، تقدّم فيها الكاتبة شيئًا من البعد النفسي والبعد الاجتماعي للشخصية المحورية، كما تمهد المسرح الداخلي النفسي للتشابك السردي لصراع درامي قادم.
العنوان : أوحشتْني عيناكِ
عنوان يحمل ثيمة رومانسية، وهو انتقاء مخاتل من الكاتبة، لكنه لا يخرج من دائرة الثيم الفرعية التي حفل بها المتن الروائي، فهي الجملة المصيدة التي بدأ منها التشابك السردي في الرواية، والتي جرّت منها الكثير من الأحداث حتى النهاية.
على المستوى اللساني والجمالي:
ناوبت الكاتبة بين الأسلوب الإخباري والأدبي، بتناوب السرد الحدثي والوصف، لكن حتى السرد الإخباري المباشر كان موشى بأدبية الصياغة، وبلاغة المفردات والتراكيب، مثلًا: لنلاحظ هذه الفقرة المشهدية :
“اجتمعوا على المائدة، وكل فرد يطمئن على وجود الصنف الذي يحبه، الولدان يشيعان جوًّا من المرح وضحكاتهما تتقافز على الجدران، ويأكل الرجلان في صمت وتركيز” ص 12
كلها أفعال حدثية، مسرودة بأسلوب إخباري مباشر، ثم تأتي جملة (ضحكاتهما تتقافز على الجدران) جملة استعارة بلاغية، تكسر تقريرية السرد الإخباري.
استخدمت العديد من التقنيات الأسلوبية، فجاءت التراكيب غنية بالترادف والطباق والجناس :
“يحيرها ارتباك أصاب نبضها؛ فهناك ما يرق بلطف، وهناك ما يدق بعنف، وترقبٌ عذبٌ معذّبٌ للقاء العيوم، وإن لم يجاوز ثواني قصارًا ولكنه كاف لإحكام الحصار” ص 14
وظفت الكاتبة ثقافتها الفنية، من خلال إدراجها للعديد من أغنيات محمد منير.
كما وظفت الكثير من الثقافة المعيشية المحلية من خلال وصفها لطقوس يوم الجمعة في بيت العائلة السكندرانية:
” تحب نهار الجمعة وإن لم يأتِ يومًا كما تمنّت، لكنها تحب أجواءه وطقوسه وروحانياته… رائحة البخور التي تضوع في حجرات المنزل.. إفطارها مع أمها، وأطباق الفول والفلافل، ورائحة الشاي تسري في العروق، وصوت الهدوء المتهادي عبر النوافذ، الذي يشقه قبل الظهر بقليل مقدمات صلاة الجمعة من تلاوات للقرآن عبر التلفاز أو المساجد القريبة”. ص 9-10
على المستوى الديناميكي :
تناولت الكاتبة العديد من المواضيع، كمضامين متحركة ضمن إطار المضمون الأساسي، وهو المضمون الاجتماعي، تناولت الرواية موضوع أزمة منتصف العمر عند امرأة تأخر عليها قطار الزواج، في مجتمع يحسب إنجاز المرأة بزواجها والإنجاب، فإذا أضيف إلى ذلك إصابتها بهشاشة نفسية جعلتها صيدًا سهلًا للاستغلال من قبل القريب ( الأخوة وأبنائهم)، ثم الاستلاب من قبل الغريب، عبر زواج مدبّر ومخطّط له من قِبل رجل يصغرها سنًّا (سيف)، هيّأته التنشئة الأبوية ليكون نرجسيًّا صريحًا، هنا، علينا أن ندرس التداعيات الوخيمة لهذا الزواج المعتل على تلك المرأة الضحية. كما طرحت موضوع الزواج غير المتكافئ، كزواج كبار السن من صغيرات أبكارَ ( والد سيف- عم أمين).
الشخصيات:
اعتنت هناء سليمان ببناء شخصيات روايتها بأبعادها، الجسدية والاجتماعية والثقافية، لكنها، بالبعد النفسي اكتفت بالحديث عن سلوكياتها الاجتماعية والشخصية، بمعنى أنهاعرضت لموضوع نشأة وتطور الشخصية النرجسية (سيف)، لكنها لم تغصِ بما يكفي في الأعماق النفسية، واكتفت باستعراض نشأته ك ( طفل ذهبي) ونشأة أخته ك( طفل ضحية) لأب نرجسي خفي مرّت عليه مرورًا سطحيًّا من خلال ذكر سلوكياته مع ابنه وابنته، ثم من خلال زواجه بعد موت زوجته بفترة وجيزة من شابة بكر.
كما لم تتطرق بالتصريح لمرض ( غادة)، الذي أصابها بعد زواجها من (سيف)، أعطتنا إشارات عن أعراض مرض ( الهشاشة النفسية)، وهي شكل من أشكال الاضطراب النفسي تصيب الشخص بسبب كثرة تعرضه للمواقف التي تضغط عليه، وعدم قدرته على التكيف مع هذه الضغوط، ما يزيد وتيرة التوتر والقلق النفسي وبشكل مستمر، وقد أشارت الكاتبة إلى معظم أعراضه عند غادة بعد زواجها من سيف، الذي اشتغل بخبرته – وهو الطبيب النفسي-على خلقها وإيجادها، إضعاف ثقتها بنفسها، والعمل على زيادة تعلّقها به، وجعلها في حاجة دائمة لدعمه المعنوي والجسدي، وتأجيج مشاعرها بصورة مبالغة، ما أودى بها إلى هيمنة الجانب العاطفي وتجاهل الجانب العقلاني، واضطرابات في النوم والأكل، وسيطرة كبيرة للمشاعر السلبية على تفكيرها.
وجهة النظر السردية:
كانت موظّفة من خلال السارد العليم، لكنها في الفصل 15 وظفت وجهة نظر السارد المشارك ( سيف)، ولكنها قيّدته، فلم تتح له التعبير عن بواطنه كاملة، وإنما حدّدته بسرد وجهة نظره بتصرفات غادة ومتطلباتها وعلاقاتها بأمها وأخويها، والتغيرات التي طرأت عليها، دون أن تطلعنا على أعماق أكثر قتامة، مؤكّد أنها موجودة في داخله، وهي محور اهتمام النرجسي على الدوام.
النهاية:
إن الموت ليس نهاية للتشابك السردي ذرائعيًّا، لذلك لا يمكنني اعتبار موت غادة نهاية للرواية ذرائعيًّا، بل أعتبر الحدث الأخير، مشهد صفع أم غادة ل ( سيف) وطرده من المنزل، وخروجه وهو يصفر لحنًا حزينًا، هو نهاية مفتوحة على تأويلات مؤجّلة.
( ينزل على الدرج قفزًا يصفر بفمه لحنًا حزينًا).
بالختام:
كنّا أمام منجز روائي جميل جدًّا لو أن الكاتبة امتلكت جرأة الديك في الإفصاح عن كل مخزونها الفكري والوجداني حيال المضامين التي طرحتها، لو أنها حبّرت بياض أوراق إضافية، وسمحت لقلمها ببقر صفحات أُخَر، ومع ذلك، وباعتبار هذه الرواية هي العمل الروائي الأول لها، فالطريق أمامها مفتوح ومعبّد لخوض التجربة مرّات ومرّات، للاستئثار بمكان مرموق في ميدان السرد الروائي.
مقال رائع كعادتك د. عبير لرواية مبدعة من الجميلة هناء سليمان