الانعزال خيار أم اختيار…!

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 12.24.52 00293521

الانعزال خيار أم اختيار...!

بقلم الكاتبة/ فاطمة قوجة- الإمارات 

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 12.23.14 90370550

 

الانعزال ليس دائمًا هروبًا…!

 بل قد يكون عودة إلى الذات

 حين يضجّ العالم من حولك بالضجيج

 يصبح الصمت وطنًا

 والوحدة حضنًا دافئًا تلجأ إليه لترتب فوضاك الداخلية.

 

وقد يكون الانعزال لحظة شفاء، أو وقتًا للنضج، أو حتى مرحلة ضرورية قبل الانطلاق من جديد.

 

قال رسول الله ﷺ:

“من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

لسنا بحاجة دائمًا لمن يفهمنا،

بقدر حاجتنا لمساحة نكون فيها كما نحن… دون خوف، دون تكلّف، دون تفسير.

العزلة ليست هروبًا من العالم، بل عودة إلى الذات.

وقد تكون أحيانًا أصدق مكانٍ نلجأ إليه،

حين يُصبح العالم مزدحمًا بما لا نحتمله.

فإن وجدت في وحدتك سَكينة…

فلا تعتذر عنها.

وإن عدت منها أقوى…

فلا تندم على كل لحظة صمتٍ اخترتها بإرادتك.

فبعض الطرق لا نُدرك قيمتها، إلا حين نسيرها وحدنا…

وبعض السلام، لا يُولد إلا من رحم العُزلة.

 

في عالمٍ يضجّ بالأصوات، والوجوه، والضغوط، تبرز العزلة كملاذٍ قد يبدو لأول وهلة راحة، لكنه لا يخلو من تساؤلات:

هل ننعزل لأننا نريد، أم لأن الحياة تدفعنا لذلك دفعًا؟

هل الانعزال خيار حرّ، أم اختيار مفروض بحكم التجارب، والخذلان، والضجيج المستمر؟

بين الرغبة والضرورة

الانعزال كـ خيار قد يبدو فعلًا ناضجًا. كأن يختار الإنسان أن يبتعد قليلًا، لا هربًا من الحياة، بل اقترابًا من ذاته. في مثل هذه اللحظات، تكون العزلة أشبه بـ”إجازة روحية”، يعود منها الفرد محمّلًا بهدوء داخلي، وأفكار مرتبة، ونفس خفيفة. هي مساحة للتأمل، للكتابة، للقراءة، للتنفس ببطء في عالم يركض بسرعة.

لكن ماذا لو لم تكن العزلة خيارًا؟

حين تصبح العزلة قدرًا

هناك من يختارهم الانعزال، لا العكس. يفرض نفسه عليهم بعد أن يُثقلهم العالم بوعوده المنكوسة، وأحاديثه الفارغة، وعلاقاته المتصدعة. يصبح الانعزال آنذاك اختيارًا اضطراريًا، أقرب إلى محاولة لحماية القلب، لا راحة للعقل. اختيار يُبنى على خيباتٍ متراكمة، أو جروح لم تلتئم، أو شعورٍ بأن لا أحد يسمع، حتى وسط الزحام. هنا، تتحول العزلة من راحة إلى سؤال، ومن هدوء إلى صمتٍ ثقيل.

السؤال الذي يتم تسأولاه كثيراً … هل الانعزال دائم؟

لا..

قد نختار الصمت، لكننا لا نُولد له!

نحن نُخلق لنتواصل، لكن بوعي

لنبني علاقات، لكن بحدود

لنكون مع الآخرين، دون أن نفقد أنفسنا بينهم.

 

الإمام الشافعي رحمه الله:

“إذا لم تُرضك خلطة الناس، فالعزلة أَولى بك، ففيها السلامة.”

العزلة ليست دائمًا وحدة

من المهم أن نفرّق بين العزلة والوحدة. فقد يختار الإنسان العزلة وهو ممتلئ بالأمل، والحب، والإيمان بذاته. وقد يعيش وسط الناس ويشعر بوحدة قاتلة لا ينجو منها. الانعزال لا يعني بالضرورة انسحابًا دائمًا. بل قد يكون مؤقتًا، بهدف إعادة التوازن، أو فهم الذات، أو التقاط الأنفاس ففي زوايا الحياة المتزاحمة، وفي تفاصيل الأيام التي تزداد تعقيدًا، يجد الإنسان نفسه أحيانًا أمام خيارٍ يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه عميق في دلالته: الانعزال. فهل العزلة قرار يتخذه المرء بكامل إرادته ووعيه، أم أنها استسلام هادئ لما فرضته الحياة من خذلان وضجيج وعبث؟

 

الانعزال ليس دائمًا ضعفًا، كما يُصوّره البعض، ولا دائمًا حكمةً كما يراه آخرون. هو في جوهره حالة نفسية وذهنية، تنبع إمّا من حاجة داخلية صادقة للسكينة، أو من تراكمات مؤلمة دفعت الإنسان لأن يغلق أبوابه، ويخفض صوته، ويبتعد بهدوء عن كل ما يؤذيه، حتى وإن كان هذا “الابتعاد” يتّخذ شكل الصمت الطويل أو الغياب المتعمّد.

 

حين يكون الانعزال خيارًا، فإنه يشبه التوقّف المقصود على قارعة الطريق؛ لا تعبًا من السير، بل رغبة في التأمل، في إعادة التوازن، في سماع صوت النفس الذي غالبًا ما يضيع وسط زحام الحياة.

هنا، تصبح العزلة فرصة للعودة إلى الذات، إلى ترتيب الفوضى الداخلية، والبحث عن إجابات لا يمنحها أحد سوانا. في هذه الحالة، قد يولد من العزلة إبداع، أو راحة نفسية، أو حتى خلاص من دوامات لا تهدأ.

 

ربما لا نخاف من العالم، بل من أنفسنا حين نكون فيه.

وربما ننعزل لأننا نبحث عن مكان لا نُضطر فيه لأن نُشرح، ولا نُبرر، ولا نُثبت شيئًا.

مكان نكون فيه فقط… نحن.

 

ماذا لو لم يكن الانعزال خياراً؟

 

ماذا لو كان الإنسان قد انسحب لأن الأبواب أوصدت، والأرواح خذلته، والعالم بدا غريبًا لا يفهمه؟

في هذه الحالة، تتحول العزلة إلى اختيار قسري، إلى ملاذ أخير من مجتمع لا يُنصت، وعلاقات لا تُثمر، وكلمات لا تُقال. يصبح الانعزال درعًا واقيًا من مزيد من الانكسارات، وسيلة لحماية النفس من ألم التكرار، من مشاهد الخيبة المتكررة.

 

وهنا تكمن المعضلة… 

فالعزلة التي تبدأ كحاجة روحية، قد تتحول مع الوقت إلى عادة قاسية، إلى نوع من السجن الداخلي الذي يصعب الخروج منه. لا يعود الإنسان قادرًا على الاختلاط، ولا يجد نفسه بين الآخرين، ويغدو أقرب إلى ظلّ لا يُرى، وصوتٍ لا يُسمع.

 

مع ذلك، لا ينبغي أن نُدين العزلة بشكلٍ مطلق، ولا أن نمجّدها بشكلٍ مبالغ فيه.

فالانعزال في جوهره، ليس جيدًا ولا سيئًا، بل يعتمد على سببه، وغايته، وما يصنعه في داخلنا. قد يكون مريحًا في بدايته، لكنه خطر إن طال. وقد يكون مؤلمًا في بدايته، لكنه شفاء إن كان مؤقتًا وواعياً.

 

إنّ السؤال الأهم ليس:هل ننعزل لأننا نريد، أم لأننا نُجبر؟ بل: هل نعرف كيف نخرج من العزلة عندما تُصبح عبئًا؟ هل نُدرك متى تتحوّل من هدوء إلى وحدة، ومن حماية إلى عُزلة سامة؟

 

في الختام..

في النهاية، الانعزال ليس غيابًا عن العالم بقدر ما هو حضورٌ عميق مع النفس. لكن لا بأس إن عدنا للعالم حين نكون أقوى، وأكثر اتزانًا. فالإنسان كائن اجتماعي في طبيعته، مهما حاول أن يقنع نفسه بعكس ذلك.

والعزلة مهما كانت دافئة، لن تُغني عن دفء العلاقات الحقيقية، وعن لحظة صدق يتقاسمها قلبان.

 

الانعزال ليس هروبًا، ما دام يقودنا نحو فهمٍ أعمق لأنفسنا. لكن عندما يصبح سجنًا لا باب له، حينها يجب أن نتساءل بصدق: هل ما زال هذا “الاختيار” يخدمني، أم أنه تحول إلى قيود تمنعني من العودة إلى الحياة؟ في النهاية، الانعزال ليس جيدًا ولا سيئًا في حد ذاته. بل في نيّتنا منه، ومآلاته علينا.

الانعزال ليس دائمًا انسحابًا من الحياة، بل أحيانًا هو توقّف مؤقت لأخذ نفسٍ طويل،

نفس نحتاجه بشدّة، كي لا نضيع في زحام لا يُشبهنا.

 الانعزال ليس دائمًا سلبياً ولا دائماً إيجابياً.

 هو مثل السكين: في يد الطاهي أداة إبداع، وفي يد الجريح وسيلة ألم.

السؤال الأهم ربما ليس: “هل هو خيار أم اختيار؟”

بل:

“ماذا نفعل به؟ وكيف نخرُج منه إذا أردنا؟

 

لم أعد أهرب من العالم…

بل صرت أهرب من نفسي حين أكون فيه.

صرت أُجيد الصمت أكثر من الكلام،

وأُتقن الغياب أكثر من الوجود،

لا لأنني أريد ذلك…

بل لأنني سئمت أن أُشرح نفسي في كل مرة،

أن أُفسر مشاعري،

أن أُثبت أن قلبي ليس خطأً مطبعيًا في زمنٍ لا يقرأ القلوب.

في داخلي رغبة عميقة في أن أكون…

فقط أكون.

كما أنا.

بلا تكلّف، بلا دفاع، بلا حاجة لأن أفهم نفسي أمام من لا يريد أن يفهمني.

تُرهقني التفاصيل، وتُتعبني المواجهات،

ولهذا اخترت العزلة، لا لأنها راحة…

بل لأنها الوحيدة التي لم تطلب مني شيئًا.

العزلة لم تسألني لماذا بكيت،

ولا كيف تألمت،

ولا متى تغيّرت…

احتضنتني كما أنا، وفتحت لي أبوابها دون شروط.

وهكذا، صرت أعود إليها كلما ضاقت بي الأرض،

لا فرارًا… بل وفاءً.

فالعالم كثير، وأنا خفيف.

والقلب الذي أرهقته الخيبات… لا يحتمل ضجيجًا أكثر.

العزلة ليست مرفوضة في الإسلام، بل لها أصل في القرآن والسنة وسير الأنبياء والصالحين.

  متى ما كانت العزلة وسيلة لحفظ النفس، والابتعاد عن الفتنة، والاقتراب من الله… فهي عبادة من نوع خاص.

  لكنّها تحتاج توازنًا، حتى لا تتحول إلى وحدة موحشة أو انقطاع عن صلة الرحم والناس.

 

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *