التحرّش بين الشرق والغرب

صورة واتساب بتاريخ 1447 01 28 في 18.34.23 d3c52181

التحرّش بين الشرق والغرب

الدكتورة/ لمياء موسى- لندن

صورة واتساب بتاريخ 1447 01 28 في 18.33.52 e4dbcfed Copy


قرّاءنا الأعزاء،

كثيرٌ ما كُتب عن التحرّش. تناولته كتب السماء، وكرّست له صفحات الفلاسفة والمصلحين ورجال الدين. كلُّهم أجمعوا — على اختلاف عقائدهم وثقافاتهم — على تجريم هذا الفعل المُهين، الذي لا يطعن الجسد فحسب، بل ينهش كرامة الإنسان من داخله.


في القرآن الكريم، ذُكر غضّ البصر، وعُدَّ من أخلاقيات السلوك، ووُضعت الحدود لمعاقبة المتحرّش، كما في الكتب السماوية الأخرى. وحتى المواثيق الإنسانية، شرقًا وغربًا، سنّت قوانين تجرّم هذا السلوك.

لكنني، كعادتي، لا أكتفي بما كُتب في الكتب، ولا أُسلّم بما قيل على المنابر.

أنا، يا أحبّتي، أنزل بكم إلى الواقع.

فالحقيقة ليست دائمًا ناصعةً في الكتب، بل أحيانًا، تكون داميةً في الشوارع.


في واقعنا الشرقي، أصبح التحرّش — سواء كان لفظيًّا أم فعليًّا — ثقافةً مستترة.

شيءٌ “طبيعي”، يمرّ في الزحام دون اعتراض، يصفّر في الطرقات، يتسلّل في الحافلات، يتمادى في الأندية، يتخفّى في الجامعات، وحتى في المدارس.


وللمرأة، في هذا المشهد، دورٌ واحد: أن تكون الملامة.

لا فرق إن كانت ترتدي حجابًا أو عباءة، سروالًا أو فستانًا.

العيب دائمًا فيها، والخطيئة وُضعت على كتفها منذ نعومة أظفارها.

ففي مجتمعاتنا، تنشأ الفتاة — عن وعيٍ أو لا وعي — وهي تصغُر الرجل، وتُربّى على أنها مسؤولةٌ عن كلّ خللٍ أخلاقي، وإن لم يكن لها فيه يد.

أما الرجل، فله من الأعذار ما يشاء، ومن التبريرات ما يكفيه للهروب من الملامة، بل والنجاة من العقاب.


وأقولها لا من منبرٍ أكاديميّ، بل من تجربةٍ شخصية.

أنا كاتبةُ هذه السطور، تعرّضتُ للتحرّش اللفظي في الشارع، في المواصلات العامة، في الأماكن المفتوحة والمغلقة.

ولم يكن الغريب في الحادثة وقوعها — فقد باتت مكرّرةً أكثر من أخبار الطقس — بل في ردة الفعل من المحيطين:

صمتٌ مشين، لومٌ موجّه، وأصابع تُشير إلى الضحية.


فأين العدالة في مجتمعٍ تُعدّ فيه شكوى المرأة “فضيحة”، واللجوء إلى القانون “عارًا”؟

أيُّ ثقافةٍ هذه التي تُدين المجنيّ عليه، وتُبرّئ الجاني؟

أيُّ منطقٍ يُخرس صوت الألم، ويجعل من الدفاع عن النفس مذلّة؟


المرأة في الشرق الأوسط لا تعاني فقط من التحرّش، بل من ثقافةٍ تُحمّلها وِزر أفعالٍ لم ترتكبها.

ثقافةٌ تجعلها تعيش في قلقٍ دائم، تشعر أنها غير كافية، غير مستحقّة، ناقصة… حتى في وجودها البسيط.

فهي، وإن تحشّمت، تُدان.

وإن تزيّنت، تُدان.

وإن سارت وحدها، تُدان.

وفي كلّ الأحوال، تبقى مسؤولة عن أخلاق غيرها.


إنه لأمرٌ مرعب أن تكون مجرّد امرأة تسير في الشارع، فيُنظر إليك كأنك دعوة مفتوحة للإهانة، ويُسقط عنك حقك في الكرامة، فقط لأنك “أنثى”.

ولطرافة الحديث، اسمحوا لي أن أروي لكم هذه المفارقة العجيبة…

حين سافرتُ إلى إحدى الدول الأوروبية، ومشيتُ في شوارعها، لم أسمع كلمة تحرّش واحدة، ولا حتى نظرةً عابرة تُوحي بما اعتدناه في بلادنا.

دهشتُ دهشةً عظيمة.

لأوّل مرةٍ في حياتي، شعرتُ أنني “حرّة” حقًا — أنني أستطيع أن أمشي دون أن يؤذيني أحد، لا بكلمة، ولا بصفير، ولا بنظرةٍ تجرح حيائي.


هناك، إن تجرّأ أحدهم على مثل هذا السلوك، فالقانون حاضر.

الفعل مُجرَّم، والفاعل يُحاسَب، والعقوبة تنفَّذ، ويُنتصَف للمرأة في الحال، دون تأخير، دون مماطلة، دون سؤالها: “ماذا كنتِ ترتدين؟”

بل يُدان الفاعل علنًا، ويُنبَذ مجتمعيًا، وكأن المجتمع بكامله اتّفق على أن الكرامة الإنسانية لا تُساوَم.

المدان هناك ليس المرأة، بل من نظر أو تحرّش أو خدش الحياء بكلمة.


والعجيب أن المرأة هناك، رغم ما ترتديه من ملابس قد تُصنّف في ثقافتنا كـ”عري”، لا تتعرّض لكلمةٍ واحدة تُسيء لها — لا في الشارع، ولا في المترو، ولا في أي مكان عام.

لأن “الثقافة العامة” هناك لا تبرّر الفعل، بل تجرّمه، وتحمي من يتعرّض له.


سيقول قائل: “ولكن الإحصاءات تشير إلى وجود نسب تحرّش  في الدول الأوروبية!”

وأنا أقول: نعم، لا أنكر ذلك. فلا مجتمع معصوم.

لكن الفارق الجوهري هو في “النِّسب”، وفي طريقة التعامل مع الفعل، وفي مدى كرامة المرأة وحقّها في استرجاع حقّها.


في مجتمعاتنا، تتحوّل الضحية إلى مجرمة. تُسأل عن ملابسها، وعن سبب وجودها في الشارع، ويُطلب منها الصمت كي لا “تُفضَح”.

بينما في تلك المجتمعات، تُعامل المرأة بوصفها إنسانًا كاملًا. يُحمى جسدها، وتُصان كرامتها، ويقف القانون معها لا ضدها.


لا شكّ أن العادات والثقافات في الشرق الأوسط لا تزال تُشجّع — بقصدٍ أو دون قصد — على التحرّش، أو على الأقل تُغذّي الصمت عنه.

تُسكت الضحية، وتُلام، وتُربّى الفتيات منذ الصغر على “اتّقاء” التحرّش، بدلًا من تعليم الذكور ألا يتحرّشوا.


لكن في المقابل، هناك ثقافةٌ مختلفة، حيث تقلّ النِّسب، وتعلو الحرية، ويُعامل الجسد لا كـ”مُلكية عامّة” يُستباح، بل كحقّ شخصي لا يجوز الاقتراب منه.


إنني، ومن هذا المنبر، بعد أن عشتُ في ثقافتين مختلفتين، ورأيتُ بأمّ عيني ما يحدث في الجانبين، أعود إلى ثقافتي الأولى — ثقافة الشرق — لأقول:

لقد آن الأوان لإعادة التفكير. لقد آن الأوان لنبدأ من جديد.

علينا أن نعيد النظر في تربيتنا، في مفاهيمنا، في الطريقة التي نُنشئ بها أبناءنا.

وإن كانت القوانين عاجزة، وإن كانت العادات والتقاليد أعلى من صوت القانون…

فلنبدأ من الجذر. من البيت. من الأم.


الأمهات، هُنّ حجر الزاوية في بناء مجتمع نقيّ من التحرش.

أسألكِ، أيتها الأم، كيف تربّين ابنتك؟

هل تُساوينها بالابن؟

هل تُحمّلينها ذنب أفعال لا يد لها فيها؟

هل تزرعين فيها الخوف من كونها أنثى، بدلًا من أن تزرعي فيها الفخر والكرامة؟


إذا وُجدت هذه الأم الواعية، وإذا انتشرت مثيلاتها، فخلال عشرين عامًا فقط يمكن أن يتغيّر وجه المجتمع.

يمكن أن نصنع جيلًا يُقدّس المرأة، لا يُدنّس كرامتها.

جيلًا يرى في المرأة إنسانًا لا جسدًا.

جيلًا يحمي الحرية لا يطاردها.


بعدها فقط، ستتغيّر الثقافة العامة.

وحين تتغيّر الثقافة، يتبعها القانون ، فالقانون في جوهره صوت الناس.


ولهذا، أنادي من هنا رجال القانون، ورجال الشرطة، أعلم أنكم جزءٌ من هذه الثقافة، أبناءٌ لهذا النسيج الاجتماعي.

لكننا نحتاجكم أكثر من أي وقت مضى.


نحتاج إلى قانون حازم، قانونٍ لا يخشى “العيب” ولا يُرضي العادات على حساب الضحايا.

نريد أن تقف الفتاة أمام القاضي مرفوعة الرأس، لا تُفضَح بعدسات الكاميرا لأنها فقط طالبت بحقها.


نريد قانونًا يُحاسب الجاني لا الضحية، لا يفتّش في ملابسها، ولا يسألها: “لماذا كنتِ هناك؟”

نريد قانونًا يُنفَّذ بسرعة، يُنصف المرأة دون خجل، ويُربّي المجتمع على احترام الكرامة لا القمع.


ورجال الشرطة، لكم دورٌ لا يقلّ أهمية…

في الإسعاف، في الإنقاذ، في سرعة التحرّك، في تصديق الفتاة لا التشكيك في روايتها.

أنتم الخط الأول، أنتم المرآة التي تعكس للمجتمع: هل كرامة المرأة تُحمى أم تُنتهك؟


وأنا لا أدّعي أن هذه المعركة ستُحسم في يومٍ أو ليلة.

لكنني أؤمن إيمانًا عميقًا أن الطريق يبدأ بخطوة.

خطوةٌ أولى، صادقة، ثابتة.


فلنبدأ من التربية الأسرية، من إعادة بناء الفكر داخل البيوت.

ثم من القانون، ليحمل صوت العدل لا التقاليد الظالمة.

ثم من رجال الشرطة، ليكونوا سندًا لا سيفًا.

ثم من الجمعيات الحقوقية والمنظمات النسوية، لتُعرّف المرأة بحقوقها، وتُعيد لها صوتها المُغيّب.


كلّ هذه المسارات، إن سارت معًا، ستُغيّر ثقافةً، وتقلّل أرقامًا، وتمنح المرأة ما تستحقه من كرامةٍ وأمان.


لكن علينا أولًا… أن نبدأ.

أن نُبادر.

أن نكفَّ عن الشكوى الصامتة، ونحوّلها إلى عملٍ يُثمر.


فيا ابنة الشرق…

لم يُخلَق جسدُك ليُدان، ولا صوتك ليُخمد، ولا حريتك لتُساوَم عليها بين عُرفٍ وعار.

أنتِ لستِ خطيئةً تمشي على الأرض، ولا صفحةً يُلوّنها سِواه.

أنتِ كرامةٌ تمشي، وحريةٌ تنبض، ونورٌ إن وُئِد، خَسِر العالم شيئًا من ضوئه.


ربما الطريق طويل، وربما الألم عميق،

لكن كلَّ خطوةٍ نحو العدالة… شفاء،

وكلَّ كلمة حقٍّ تُقال… بداية،

وكلَّ امرأةٍ تُنصَف… فجرٌ جديد.

ثم من القانون، ليحمل صوت العدل لا التقاليد الظالمة.

ثم من رجال الشرطة، ليكونوا سندًا لا سيفًا.

ثم من الجمعيات الحقوقية والمنظمات النسوية، لتُعرّف المرأة بحقوقها، وتُعيد لها صوتها المُغيّب.


كلّ هذه المسارات، إن سارت معًا، ستُغيّر ثقافةً، وتقلّل أرقامًا، وتمنح المرأة ما تستحقه من كرامةٍ وأمان.


لكن علينا أولًا… أن نبدأ.

أن نُبادر.

أن نكفَّ عن الشكوى الصامتة، ونحوّلها إلى عملٍ يُثمر.


فيا ابنة الشرق…

لم يُخلَق جسدُك ليُدان، ولا صوتك ليُخمد، ولا حريتك لتُساوَم عليها بين عُرفٍ وعار.

أنتِ لستِ خطيئةً تمشي على الأرض، ولا صفحةً يُلوّنها سِواه.

أنتِ كرامةٌ تمشي، وحريةٌ تنبض، ونورٌ إن وُئِد، خَسِر العالم شيئًا من ضوئه.


ربما الطريق طويل، وربما الألم عميق،

لكن كلَّ خطوةٍ نحو العدالة… شفاء،

وكلَّ كلمة حقٍّ تُقال… بداية،

وكلَّ امرأةٍ تُنصَف… فجرٌ جديد.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *