
الثانوية العامة... الحلم تحت ضغط الأسلاك الشائكة
د. حسين عبد البصير
عالم المصريات ومدير متحف الآثار – مكتبة الإسكندرية

حين يصبح الحلم عبئًا…
الثانوية العامة… مجرّد نطق الكلمتين كفيل بأن يوقظ في النفس زوبعةً من المشاعر المتشابكة: قلقٌ يعصف بالقلب، ورهبةٌ تتربّص بالعقل، وأملٌ خافت يلوح من بعيد، وتعبٌ يحفر أخاديده في الروح، وساعاتٌ طويلة من السهر والتوتر والانتظار.
ذاكرة لا تنام…
أتذكّر تلك الأيام جيدًا، كما لو كانت البارحة. كنت أستيقظ قبل شروق الشمس، بينما المدينة غارقة في صمتها، أفتح كتب التاريخ واللغة الإنجليزية والفرنسية كأنها نصوص مقدّسة، أتعامل معها بخشوع الطالب الصوفيّ في محرابه. أما الجغرافيا، فكنت أدرسها كما لو كنت أفكّ شفرات فرعونية، أبحث عن مفتاح الكلية التي راودتني طويلًا في أحلامي.
اللغة العربية… ملاذ الروح
كانت اللغة العربية ملاذي وسري. فيها وجدت نفسي، وكتبت وتأمّلت، وابتعدت قليلًا عن صرامة المنطق وجفاف الفلسفة، ووجدت مساحة لأتذكّر من أكون.
ضغط المجتمع وتوقعاته…
لكن الضغط كان قاسيًا. عامًا مليئًا بالتوقعات، بالخوف، بالأسئلة المتكررة:
“هتدخل إيه؟ هتجيب كام؟ طب ما تحوّل علمي؟ الطب أحسن… الهندسة أضمن!”
كل شخص في حياتي كان يحمل لي حلمًا مرسومًا، كأنني مشروع عام مطروح للمناقصة!
النتيجة… لحظة مصير
ثم جاء يوم النتيجة. لحظة لا تُنسى مهما طال الزمن. جلستُ أمام الورقة كأنني أمام مصيري.
80%!
رقم لم يُبهر البعض، لكنه كان كافيًا لي. لم يكن فقط حصاد عام، بل إعلان بداية طريق. راهنت على اللغة العربية في المستوى الرفيع، وكان أملي أن أبلغ بها بوابة قسم الآثار في جامعة القاهرة.
رهان على الشغف… لا على المجموع
قراري بدخول القسم الأدبي كان تمردًا. المجتمع يقدّس العلميات والطب والهندسة. لكنني اخترت شغفي. اجتهدت وكنت من أوائل الدفعة في كلية الآثار، أربع سنوات كاملة. لم يكن المجموع مجرد رقم، بل بوابة عبور نحو ما يُشبه المصير.
كلية الآثار… الحلم الذي يشبه المعجزة
حين دخلت الكلية، لم أرها مجرد مبنى، بل بوابة زمنية لفهم الإنسان عبر العصور. شعرت أنني لم أعد فقط أقرأ التاريخ، بل أشارك في فهمه وصناعته.
ورغم دهشة العائلة:
“ليه مش سياحة؟ إعلام؟ اقتصاد وعلوم سياسية؟”
كنت أعلم في أعماقي أنني بدأت أكتب تاريخي بيدي، لا بأقلام الآخرين.
رسالة لكل طالب وطالبة…
الثانوية العامة ليست نهاية العالم، بل مجرد محطة مؤقتة. نعم، قد تكون صعبة، مرهقة، ومربكة، لكنها ليست نهاية الطريق. المهم أن تعرف من أنت، وماذا تريد، وأن تتحمّل مسؤولية قرارك بشجاعة.
لا تجعل الآخرين يقررون مصيرك، ولا تجعل الأرقام تحدّد قيمتك.
ابحث عن شغفك، عن الشيء الذي يُشعلك من الداخل.
النجاح الحقيقي لا يُقاس فقط بالدرجات، بل بالقدرة على أن تكون ذاتك.