
الجرتق طقس الزفاف السوداني الذي يوشّح العروس بالتراث
بقلم الدكتورة/ بلسم القارح-السودان

في زوايا الفرح السوداني، حيث تتعانق العطور مع الأهازيج، يزهر طقس “الجرتق” كأحد أبرز الطقوس عمقًا وبهاءً بالاحتفالية المرتبطة بالزواج، حاملاً معه عبق الأصالة وإرث الجدّات. لا يُعد الجرتق مجرد لحظة عابرة في مسار الزواج، بل هو طقس رمزي يحتفي بالعبور من العزوبة إلى الرباط الاجتماعي المقدّس، ويُشكّل إعلانًا جمالياً واجتماعيًا لانبثاق أسرة جديدة في قلب المجتمع السوداني.
طقوس تُطرّز بالذهب والحناء… وتُغنّى بالدعوات
عادةً ما يُقام الجرتق عقب عقد القِران، وغالبًا ما يُخصّص له يومٌ قائم بذاته ضمن احتفالات العرس. في هذا الطقس، تتحوّل العروس إلى أيقونة تراثية: ترتدي الثوب الأحمر المطرّز – رمز الخصوبة والحياة – وتُزيّن بذهبٍ يعرف بـ”السُبحة، الحُجبات، القُرط”، وتُعطر بروائح “الخمرة” و”الضريرة” و”الدخان”. أما العريس، فيتأنّق بالجلباب الأبيض وعمامة تقليدية، ويلف جسده بتوب السرتي، قماش أبيض تُطرّز حوافه بخطوط حمراء، وتُزيّن جبهته بعِصابة تحمل هلالًا ذهبيًا.
وتُوضع على ظهري العروسين “الفِرْكة” – قطعة قماش فاخرة حمراء مزركشة بالذهبي، تُرمز بها الوحدة الزوجية وتُغلفهما بمعنى الستر والرباط المشترك. في بعض التقاليد، يحمل العريس سيفًا رمزًا للقوة والحماية، وتُزيّن الساحة بجريد النخل، أحد أبرز رموز البركة والفرح في ثقافة الجرتق.
أغنيات الجرتق… دعوات تنسجها الحناجر
وسط الزغاريد والتصفيق، تصدح النسوة بأغنيات تراثية مخصصة للجرتق، منها:
“آهي الليلة العديل والزين، الليلة العديلة”،
“يا عديلة الله تقدّمه وتُبراه، بسم الله ابتديت، قولي السمح والزين”.
وتُغنّى هذه الأغاني في توقيت دقيق خلال الطقس، حيث تتناغم الكلمات مع مشاعر المجتمع وانفعالات العروسين، وكأنها طقوس دعاء مغنّى
قواعد الطقس… وشروط البركة
في بعض المناطق، تُشترط شروط دقيقة: يجب أن تكون من تُجري الجرتق للعروس والعريس من النساء المتزوجات، دون أن يكنّ مطلقات أو يتيمات، لما يُعتقد أنه يحمل رمزية للخير والاستمرارية.
العنقريب… اللبن
يُجلس العروسان على عنقريب الجرتق، سرير خشبي تقليدي مشدود بالحبال، وتُختتم الطقوس بـرش اللبن، حيث يُملأ فم كل من العروسين بالقليل من اللبن، ويحاول كلٌ منهما رشه على وجه الآخر وسط الضحك، والتصفيق، والزغاريد… لحظة تُجسّد البركة والطُهر والقبول.
الرقص… والحكاية التي لم تكتمل بعد
تُؤدي العروس في كثير من المناطق رقصات خاصة خلال طقس الجرتق، تتناغم فيها خطواتها مع الإيقاع، وتُستعرض فيها أنوثتها بثقة وجمال أمام المجتمع. هي رقصة الظهور، ورقصة الانتقال، ورقصة الشجاعة.
وفي بعض التقاليد، لا ينتهي المشهد عند الجرتق، بل يتصاعد إلى “رقصة العروس”، رقصة تُخبئ في تفاصيلها وعدًا… لحكاية لم تبدأ بعد، لكنها ستُروى يوماً بكل حب ودهشة. فابقوا معنا… فالقصة القادمة لا تُفوّت.
رمزيات متجذرة في الروح والمجتمع
الجرتق” وجوه متعددة؛ فهو ليس مجرد طقس، بل تجلٍ لمعانٍ عميقة:
• رباط مقدّس: يوثق الجرتق العلاقة الزوجية في سياق روحي وشعبي، يُعطيها شرعية المجتمع وبركته.
• إعلان اجتماعي: يُمثّل الجرتق لحظة ظهور، حيث تُقدّم العروس والعريس ككيان جديد إلى العائلة الكبرى.
• هوية ثقافية: تفاصيل الجرتق تعكس تنوع السودان القبلي والثقافي، وتشهد على غنى الموروث الشعبي وتعدده.
من النقوش القديمة إلى حفلات اليوم
تُشير بعض الدراسات إلى أن الجرتق له جذور ضاربة في التاريخ؛ فالنقوش التي وُجدت على الأواني الفخارية والمقابر النوبية تُظهر طقوسًا احتفالية شبيهة: نساء بملابس مزركشة، أدوات زينة، وعطور… كلها رموز تُحاكي مشاهد الجرتق المعاصر، وتؤكد على استمرارية روح الثقافة السودانية عبر العصور.
طقسٌ يتجدّد دون أن يفقد روحه
رغم التحوّلات الاجتماعية والتأثيرات العصرية، لم يفقد الجرتق بريقه. بل على العكس، يشهد اليوم إحياءً لافتًا، في حفلات الزفاف داخل السودان وفي المهجر، حيث تحرص كثير من العائلات على تضمينه ضمن مراسم الزفاف المعاصرة – في زواج يمزج بين الحداثة والتقاليد، بين ضوء القاعة وصوت التاريخ.
في الجرتق، لا تتزيّن العروس فقط، بل يتزيّن الزمن نفسه بلحظةٍ بفخر حيث تُضاء ذاكرة الجدّات من جديد… وتخضر الأرض بأحلامٍ تُروى على إيقاع الوجدان.
فتُعانق فيها العروس ماضيها ، وتدخل حاضرها بخطى مُعطّرة
بتراب من الجلال وتبر وخضاب