
الخيول في كوش: بين الأسطورة والواقع المدفون – قدسية وغرابة"
بقلم الدكتورة/ بلسم عبد الحميد احمد القارح
مدير مكتب الأثارالاقليمي -البحر الأحمر
مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث- السودان

حين تطأ أقدامكم أرض الكرو، في قلب مملكة نبتة القديمة، ستشعرون بشيء يتسلل إلى أرواحكم. همسات الريح، وهدوء الرمال، وتلك التلال الصامتة تخفي أسرارًا لا تحصى… أسرار ملوك لم يكونوا مجرد حكام، بل حملة رسائل وهوية، وأحلام شعب.
في هذه الصحراء المترامية، حيث توزعت أشجار الغابة المتحجرة كأنها حراس للزمن، نشأت وأنا أصغي لحكايات جدي وأبي عن ملوك كوش، والخيول التي كانت تُدفن واقفة، تُزيَّن أعناقها بالحلي كما لو كانت تستعد لرحلة أبدية. تسللت هذه الحكايات إلى أعماقي، وبدأت تشكل في وعيًا مبكرًا بالزمن والهوية. كبرت، وتعمق حبي للآثار، فاخترت أن أدرسها، مدفوعًا بشغفي لفهم تاريخ بلادي، وكشف أسرارها المدفونة تحت الرمال.
وسط الأهرامات الصامتة، والمقابر التي تتحدى الزمن، وقفت أتأمل مشهدًا نادرًا في العالم القديم: مدافن الخيول الملكية. فهذه ليست مجرد حيوانات دُفنت مع ملوكها، بل رفاق الروح الذين احتلوا مكانة روحية وعقائدية عميقة في حضارة كوش.
في أقصى الزاوية الشمالية الشرقية من جبانة الكرو، وجدت أربعة صفوف من قبور الخيول، بطول 120 مترًا، تتوزع كما يلي: أربعة، ثم ثمانية، ثم ثمانية، ثم أربعة. يُعتقد أن هذه القبور تعود للملوك العظام تهارقا، شباكا، شبتكو، وتنوتأماني من الأسرة الخامسة والعشرين وعلى الرغم من أن هذه القبور قد تعرضت للنهب، إلا أن ما تبقى منها كان كافيًا لرواية الحكاية: الخيول دُفنت في وضع قائم، محلاة بالزينة، ومجهزة كما لو كانت في طريقها إلى معركة شرفية في العالم الآخر.
لكن ما أثار حيرتي حقًا هو أن رؤوس الخيول كانت مفقودة! مشهد غامض، طرح أسئلة لا تزال تبحث عن إجابة. هل فُصلت الرؤوس ضمن طقس ديني معين؟ هل كان ذلك جزءًا من عقيدة ما؟ لا توجد أدلة قاطعة، لكن المؤكد أن هذه الخيول لم تكن تعامل ككائنات عادية، بل كأرواح ترافق ملوكها في الخلود.
الدراسات التي أُجريت على الهياكل العظمية لتلك الخيول أظهرت أن هذه الخيول كانت أدق بنية من الخيول الأوروبية والأمريكية، وتشبه الحصان العربي لكنها أنحف بعدة ملليمترات. هذا الاختلاف البسيط يعكس تطورًا خاصًا في سلالة الخيول في وادي النيل، وخصوصًا في كوش. اللافت أيضًا أن ظهور الخيول في وادي النيل يعود إلى حوالي 1600 قبل الميلاد، أي قبل ظهورها في مناطق أخرى جنوب الصحراء أو غرب أفريقيا. وهو ما يعكس ليس فقط مسارات التجارة، بل رؤية عقائدية وثقافية متفردة، جعلت من الخيل شريكًا روحيًا للملك، ومعبّرًا عن سلطته وهيبته.
بالنسبة لي، لم تكن هذه المشاهد والوقائع مجرد معلومات تاريخية. كانت رحلة حياة. لحظة امتزج فيها العلم بالشغف، والحكاية بالحقيقة. كانت اكتشافاتي بمثابة نداء داخلي يُعيد ربطني بجذوري، ويفتح أمامي دروبًا جديدة من البحث والتأمل. لقد أيقنت أن في كل ذرة رمل حكاية وفي كل عظمة حصان ترنيمة صامتة لوداع ملكي خالد.
وهكذا في ارض المفاجآت حيث ترفرف الأرواح فوق رمال النيل لا يموت الحصان… بل يتحول إلى أسطورة.
وأظل في كل مرة أسمع النداء ذاته
أي بني ….اكتشف، احكِ، وواصل الرحلة……