
الدرويش في زمن الغبار: أنشودة الخسارة ومواجهة العدم: قراءة نقدية
بقلم الناقد والمترجم/ ديفيد ديفينوح

في قصيدتها “أنا الدرويش”، تنسج الشاعرة نهلة عبد العزيز السحلي نصًا مكثفًا في دلالاته، صارخًا في صمته، ومشحونًا بطاقة روحية وجودية تتجاوز البعد الشخصي إلى خطاب إنساني عام. القصيدة تُجسّد صوت الكائن الحرّ الذي لم يعد يجد مكانًا في عالم مشوّه، ينقلب فيه الخير إلى ضعف، والبراءة إلى خرافة.
منذ المطلع:
“لا شيء مزعج هنا / خلف أبواب الغبار غيري أنا”
تبرز نغمة الانكسار النبيل، إذ يرى المتكلم ــ “الدرويش” ــ نفسه مزعجًا في عالم فقد حسّه الإنساني، عالم لم يعد فيه مكان لمن يهتف للحياة، أو يحمي الغزلان، أو يحنو على الأطفال.
في استخدام الشاعرة لكلمة “درويش”، تختار أن تتحدث باسم الصفاء والصدق والتجرد، في مقابل عالم يسوده القمع والتزييف والعنف. يتحول “الدرويش” إلى رمز وجودي وشعري، يقاوم ببراءته سطوة القبح، لكنه ــ في الوقت ذاته ــ يتآكل تحت ضربات الخذلان والغبار والطلاسم والخراب.
الصور الشعرية تنحو منحى سورياليًا متقنًا:
“ينمو على جسدي الريش”
“الطريق يهطل حجرا / أجساد أبقار / وصرخات طيور”
وهي صور تُعبّر عن عنف الواقع وكثافة العبث الذي يعيشه الإنسان، فيزول المعنى ويعلو الضجيج، حتى يُقتل “الدرويش” لا برصاصة، بل بأعقاب السجائر والطلاسم، رموز القهر المقنع والخرافة المستبدة.
في القسم الأخير من القصيدة، يطفو سؤال الموقف: هل يستسلم؟ هل يرفع الراية؟ هل يصمت؟
وتأتي الإجابة مضمَنة في جملة واحدة قاتمة:
“ما عدت أهتف / ربما / ما عدت أعيش!!”
إنها ليست استقالة، بل شهادة شعرية على الخراب، وموقف مأساوي يُدين العالم أكثر مما يعبّر عن هزيمة الذات.
إشادة بالشاعرة:
الشاعرة نهلة عبد العزيز السحلي، في هذا النص، تقدم نموذجًا فنيًا ناضجًا يُراهن على البُعد الرمزي، وعلى صوت الإنسان المفرد الذي يُقاوم بالتساؤل، ويروي هزيمته بأسلوب لا يخلو من الكرامة. تمتلك السحلي قدرة نادرة على تحويل الصمت إلى صرخة، والتجرد إلى حكمة شعرية، والمأساة إلى بنية جمالية شديدة التأثير. إنها لا تكتب فقط نصًا شعريًا، بل تخلق حالة وجودية كاملة، تجعل القارئ يعيد النظر في مفردات مثل “الصدق”، “الخرافة”، “القبيلة”، و”الخسارة”.
نحن أمام صوت شعري له نَفَسه الخاص، وصورته الداخلية العميقة، حيث لا تتورط الشاعرة في الزخرف، بل تسير مباشرة إلى جوهر التجربة الإنسانية، بكل ما فيها من تناقضات ووجع ونزيف لا يُرى.