
الدندر... سجل يتنفس
بقلم الدكتورة/ بلسم القارح-
مدير متحف – السودان

في الجنوب الشرقي من السودان حيث تصمت المدن وتبدأ همسات الطبيعة تتفتح قصة الدندر المحمية الطبيعية التي تنبض بالحياة، وتحمل في جذورها ذاكرة وطن وفي أوراقها حكايا الأمهات والجدات عن الأسود والأنهار والشجر الذي لا يشيخ.
هي أرشيف ضخم حيّ للعلاقة المتناغمة بين الإنسان والمكان بين الفكرة والجسد بين الطبيعة والحكاية.
على خريطة الحياة: أين تقع الدندر؟
تقف الدندر شامخة منذ عام 1935منذ أعلنت رسميا هناك حيث يعيش ما تبقى من الفيلة والأسود والطيور المهاجرة… وهناك، ما زال نبض الأرض واضحًا، لمن يريد أن يسمع.
في الجنوب الشرقي من السودان، وعلى امتداد ولايات سنار والقضارف والنيل الأزرق، تتربع محمية الدندر القومية كأيقونة طبيعية تحفظ أسرار الأرض منذ آلاف السنين.
تمتد المحمية على مساحة تزيد عن 10,000 كيلومتر مربع، وتحاذي من الشرق حدود السودان مع إثيوبيا، على مسافة تقدر بنحو 400 كيلومتر جنوب شرق الخرطوم.
في قلب هذه الرقعة الخضراء، تتقاطع أنهار موسمية ووديان ساحرة، أهمها نهر الدندر الذي يخترقها من الغرب، ونهر الرهد الذي يحدها من الشرق، إضافة إلى خور “قلقو” الذي يشق طريقه كأنشودة موسمية في صمت الأرض.
أما لمن يبحث عن الدقة العلمية، فها هي الدندر تقول:
أنا عند خط العرض 12°17′ شمالًا، وخط الطول 35°29′ شرقًا…
هناك حيث يتنفس التراث، وتمشي الذاكرة على قدمين من عشب وماء.
الدندر… كنز لم تُكتَب حكاياته بعد يظن البعض أن الحياة البرية تقف عند حدود الحيوان والنبات، لكن من عاش بالقرب من الدندر يعرف الحقيقة
هي مدرسة الحياة. قبائل مثل العنج، والفونج لم تكن تسكن الغابة فقط، بل كانت تحاورها وتتعلم منها تحفظ أسماء الأشجار، وتغني للأمطار وتروي أساطير عن أسود طيبة وأنهار لا تنضب.
ولكن، ماذا يحدث الآن؟
الدندر، مثل كثير من الأماكن الساحرة في وطننا العربي، تدفع ثمن الإهمال بصمتٍ موجع. فهي تواجه خطر الصيد الجائر الذي يُفرغ الغابة من أنفاسها البرية، وتئن تحت وطأة تجارة غير مشروعة تسلبها توازنها الطبيعي. أشجارها تُقتلع بلا رحمة، ومراعيها تتعرض لجورٍ لا يرحم، فيما تعاني حمايتها من نقصٍ حاد في الكوادر والإمكانات التقنية. وكأن ذلك لا يكفي، فتأتي التغيرات المناخية القاسية، تحمل معها فيضانات مباغتة تفتك بالبنية البيئية الهشة، في ظل غياب وعيٍ مجتمعي حقيقي بأهمية هذا الكنز الحي الذي اسمه الدندر.
ختامًا: هل نبقى شهودًا على زوال الجمال، أم شركاء في إنقاذه؟
الدندر ليست مجرد مساحة خضراء. هي امرأة عجوز تروي أسرار الغابة، وشابة تحلم بحياة متوازنة، وطفلة تسأل: “هل ما زال الأسد هناك؟”
إن حمايتها ليست ترفًا بيئيًا، بل واجب ثقافي وإنساني.
هي دعوة لنقف معًا، حرسا لذاكرةٍ لا تزال تنبض في قلب المحمية، وفي قلوبنا جميعًا.