يدين الإنسان في كل مراحل حياته لما غرس فيه في الطفولة ، فالسنوات الأولى للإنسان على الأرض تشكل وعيه وعقله الباطن ، ورغم كل ما يكتسبه من تعليم ، يستفيد منه من تجارب الحياة ؛ تظل النشأة الأولى مؤثرة بوعي أو بغير وعي ،لقد تذكرت ذلك وأنا أقرأ هذه المجموعة القصصية التي يشكل مفتاحها قصة (هو)،هي قصة فتاة تربيها جدتها ، وتغدق عليها حنانا ورعاية ، ويصر الأبوان بعد سته أعوام على أن يأخذوا الفتاة لتعيش معهما ومع إخوتها ،هذه النقلة الإجبارية زلزلت الفتاة من الداخل ،وزلزلت الجدة ،ورغم كل محاولات التخفيف من الآثار السيئة لهذه النقلة غير المبررة خصوصا للطفلة – رغم كل ذلك ظل الإحساس بالقهر ،يسيطر عليها داخليا ،ويؤثر على قراراتها ،تكبر وقد تقوقعت على ذاتها ،ووضعت كل همها في صداقة الكتب ،وجدت فيها الوفاء والحنان والاحتواء الذي افتقدته بانتزاعها من أحضان الجدة ،توافق على الخطبة لأن الخطيب سيسكنها بجوار حبيبتها ،وعندما تموت الجدة تصر على فسخ الخطبة ،هكذا كانت ومازالت وستظل سنوات الطفولة مؤثرة على مسيرة الإنسان طوال حياته ،سنجد روح فيفيان هذه الطفلة المبدعة تسري في أغلب قصص المجموعة ،فتنحاز دائما لكل ما هو راق وجميل مثل جدتها ،تنحاز لإنسانية الإنسان ،وحقه في أن يختار ،ولا يقهر على شيء ،ويفيض هذا الإحساس الإنساني ويتألق فتشعر هذه الطفلة شديدة الحساسية تشعر بظلم الإنسان لمخلوقات الله ، وتسمع بكاء الشجر ، وتتماهى مع ما يحس به نحو من يقطع الأشجار لغير ضرورة تقول في قصة (هو) المفتاحية :
أخذَ الأبُّ والأمُّ حقيبةَ ابنتِهما ، ولم يدركا أن الابنةَ تركتْ قلبَها فى بيتِ جدتِها ، وتركتْ صندوقَ الذكرياتِ السخيّةِ ، والوطنَ الطفوليَّ ، وشهادةَ الميلادِ فى الخمسِ سنواتِ الأولى فى التكوينِ والتلقينِ والعذوبةِ المنقوعةِ فى خزانةِ البداياتِ.
ذهبت فيفيان ولكنها كطفلةٍ رحلتْ إلى أعماقِها لم ينتبهوا أن الخمسَ سنواتٍ ليستْ عابرةً ، ولكنها محفورةٌ فى فضاءاتِ الذاتِ وصلَ الأبوان إلى منزلِهما بالغنيمةِ التى انتَابَها طوفانُ البكاءِ والصراخِ ، احتوتْها أمُّهَا على كفِّ الرحمةِ ، وفرحَ بها أخوتُها ، ولكنَّ الطفلةَ المنزوعةَ من حياةِ جدتِها انتابتْهَا الدهشةُ ، فبرغمِ حفاوةِ الأخوةِ والأبوين هي بعض منهم ، هناك ملَكُ منزلٍ وقلبُ جدتِها سريرُها نداؤها ، كلماتُها ، الطعامُ ، ونكهتهُ العذبةُ حتى الخادمةُ ومشاغبتُها..
،وتقول في قصة بكاء الشجر ،وهي قصة المجموعة :
والأغصانُ تبكى قسوةَ البشرِ دونَ مبالاةٍ منهم وعادتْ الحياةُ ، ولم يعدْ الشجر، ماتَ على
قارعةِ الطريقِ حيثُ لا صاحبَ ولا صديقَ.
عندما قطعوا واعتدوا على فروعِ وأغصانِ الشجرِ تسبّبُوا في تشريدِ وتشتيتِ عشراتٍ من عائلاتِ العصافير ،ودمروا أعشاشَ الصغارِ ومأواهُم لن يعلنوا بعدَ ذلك استقبالَ الصباحِ ، ولن يتغنوا وينشدوا: صوصوصو ، لن يعلنوا أيضا وقت الغروب ويتغنوا للنوم.
بدأ الغبار يغمر البيوت ،وتسللت حرارة الشمس إليها ، عُوقبَ الجحودُ ،ولم ينفعْهُ الندمُ .
-تبدأ المجموعة بقصة (ملامح) قصة قصيرة جدا عن أن الإنسان يكتشف ذاته الحقيقية عندما يجد أن ما يفعله يسعده ،ترسو سفينته على شواطئ الحلم الذي تحقق ،يجد نفسه ويتعرف على ملامحه .
القصة شديدة التكثيف والعمق ،وتفتح أبوابا كثيرة للتأويل.
-المحاولة : قصة قصيرة جدا تتعمق الذات الإنسانية ،وتتعلق بالأمل رغم كل الإخفاقات ،فمازالت تحاول ،تكثيف وربط للعام بالخاص ،وترك مساحات واسعة للتخيل .
– -أما قصة (تصالح) فترسم فيها طريق النجاح ،تؤكد على أسسه ، وكيف سيأتي التصالح مع النفس في موعده ، وتجود الدنيا بما بخلت به،
تصل في القصة لعمق المأساة الإنسانية ،وتكتشف أن الإخلاص سر النجاح ،وأن التصميم والإصرار
يحققان الأمل .
-وفي قصة شلالات الحقائق تحكي عن الاستسلام للواقع ،وكيف يخور عزيمة الإنسان أحيانا ،فيعيش مثل من حوله ، وينسى بعض الوقت أحلامه وطموحاته ،لأن هناك ما هو أهم ،ولأن الموج عال جدا ،والنوّة شديدة لا يمكن الوقوف أمامها بلا خسائر .
-الجنة في حجرة :قصة تحليل نفسي ، تبين كيف ترتبط العلل الجسدية بالحالة النفسية ،وكيف لعبت الموسيقى دورا كبيرا في العلاج ،وكيف كانت حالة النشوة والموسيقى تسيطر على كل شيء .
-وقصة (وجه من قصة) تبرز مشكلة نفسية يشعر بها مرهفو الحس ، عندما تعمق غربتهم تقلبات الحياة ؛ لدرجة شعورهم بغربة ملامحهم عنهم ،ولولا بعض من إيمان لاستمرت هذه العربة التي لا يتخيلونها لكنها ماثلة أمامهم في المرآة .
-بكاء الشجر :قصة المجموعة وهي قصة تأخذ أبعادا رمزية تتعلق بالشجر وما يرمز إليه ، وقد تخيلت الكاتبة الشجر يبكي عندما قطعوه بلا سبب مقنع سوى أنه يزاحمهم الأماكن ،وندموا عندما عانوا كثيرا من الآثار السلبية لقطع الشجر ،ندموا حيث لم يعد الندم مفيدا .
– قصة أخرى تعد نواة لرواية اجتماعية مؤثرة (هي والقاهرة ) تبرز معاناة المرأة في الحياة لتحافظ على زوجها وأبناءها وبيتها ،ورغم انتقالة غير محسوبة من محافظة إلى أخرى ،تنجح المكافحة وتحقق أغلب ما تتمنى رغم معوقات كثيرة مرة تأتي أغلب مرارتها من أقرب الأقرباء في العمل أو الأسرة إنها جرعة أمل لكل من يصر على أن يكون أفضل ،تقول فيها :
تجلسُ وفاءُ في شرفةِ منزِلِها الجديدِ ، وتمضِي بناتُ أفكارِها ؛ لتعودَ سنواتٍ وسنواتٍ حفرتْ أحداثُها في ذاكِرَتِها وعلى جلدِهَا الكثيرَ من العلاماتِ التي لم يستطعْ أن يمحوَها الزمنُ ،ولا مرورُ الأيام ،وضعت يدَهَا على خدِّهَا ،ونظرتْ
إلى السماءِ..
-قصة أخرى يمتد فيها الزمان وتتعدد الشخصيات (الجميلة) وهي قصة تبرز جانبا سلبيا في الواقع الاجتماعي الذي يهتم بالمظاهر ،وتسري فيه بعض القيم الاجتماعية السلبية ،فرغم كفاح البطلة ،وأنها تبذل كل جهد من أجل أن تبقى السفينة عائمة ،تخطيء أمها وتشكو من زوج ابنتها المستهتر لصديقاتها وهن في زيارة لها في مرضها ،فتتغير معاملتهن ،وينعكس ذلك بالسلب على الأسرة ،فتفسخ خطوبة البنت ،والابن ،وبدلا من الوقوف مع هذه البطلة ،تم الوقوف ضدها ،وعقابها على ذنب لم ترتكبه هي ولا ابنها وابنتها ،تقول فيها :
وعندما شفيت الجميلة وعادت للعمل وجدت الجميع في العمل يواسيها في أحوالها لقد تسرب حكى أمها عن حياتها إلى الكل وللأسف زميلتها التي كانت تلمح لها بزواج ابنها من ابنتها وحددوا ميعاد المقابلة اعتذرت. وأيضاً ابنة زميلتها التي تم موافقتها على الخطوبة من ابنها تعللت أن يكون الابن متسرع فى قراراته مثل أبيه ولا يقدر قيمة الأسرة ويفضل الجلوس على المقاهي. فالولد دائما ما يقلد الأب. وبدأت الحياة بقهر مجتمعي آخر لا ذنب لها ولا لأولادها فيه.
-قصة كفاح ونجاح لتلك المرأة البطلة في هذه المجموعة ،تبرز جانبا من الصراعات الجانبية في الأمسيات والنوادي الثقافية ،وتتضمن لذلك أربع قصائد بديعة :هدايا السنة دي ،وطن بلا تدخين ،دعوة للحب ،بلطجة .
تقول فيها : اتفقوا أن يقوم البعض بالتشويش على الأمسية ويقوم البعض الآخر بتعطيل أجهزة الصوت وكانت سها محظوظة فقد سمعت صديقتها كلام الأشرار بالصدفة ،وأبلغته لسها وأخذت حذرها ،واختارت قاعة مغلقة ،وركبت فيها توصيلات الصوت ،ووضعت حارسا على الباب من الداخل وآخر من الخارج ..
وعندما رأى أعضاء المجلس الجديد نشاط سها وجدية الاستعدادات تضامن معها وساندها ،ووفرلها مالا طلبت من أدوات ومساعدين ..
-في ختام المجموعة :قصة أجنحة البحر ،ومعاناة أخرى لفتاة خطيبها على سفر ،يؤجل موعد العودة مرة تلو مرة وتمر السنوات ،وتتعلق بالأمل رغم آلم المسافات ،والوعود التي تتأجل مرة تلو مرة
تقول :”..أنا هنا يا حبيبي مكبلة بالمشاكل ،يصاحبني الملل ،لا أملك إلا هذه الذكريات ،وصفحات كلمات ،وقمرا وقصائد ،أحلام انتظار ،هل يسمعني النهار ؛ليرسل لي باقات التفاؤل ؛لأستعيد الحياة ،هنا بدونك يا حبيبي الدمع غزير ،والخوف وفير ،والأمل في قلبي يستجير ، والقلق يشتد ويهتف بالارتباك ،لا أنا هنا ولا هناك ،الأزمات طغت على الوعود والأمنيات .”
-وبعد فإن الذاتية والبعد الإنساني البطل الحقيقي لهذه المجموعة ،فالبطلة في كل القصص تكافح وتواجه صعوبات وتتغلب عليها ،يصيبها اليأس ،وتستسلم حينا ،وتتمسك بالأمل وتصبر غالبا ،تتصالح مع ذاتها فتكسب نفسها وتكسب الدنيا أيضا برغم كل تقلباتها ،تصبر على نوائب الدنيا فتزداد قوة ،وتحقق النجاح تلو النجاح ،فتزيد قدرتها على الصبر والتحمل .
،أجادت الكاتبة الرسم الاجتماعي والنفسي في أغلب القصص ؛حتى شعرنا أن الأبطال شخصيات مألوفة لنا ،ومن واقعنا الاجتماعي بكل ما يحمل من تناقضات ،جعلتنا نتعاطف مع البطلة في الموقف المختلفة نحبها ونقدرها ونحب ما أحبت ومن أحبت ،بل نكره ما كرهت ومن كرهت ، ولأن هذه القصص تتماهى مع الذاتية فلم ترسم لنا البطلة رسما فيزيائيا كاملا ،وتركت لنا أن نتخيلها حتى لا تكرر الرسم الذي يتماهي مع رسم الكاتبة نفسها ،ورغم امتداد بعض القصص في الزمن وتعدد الأماكن والشخصيات حرصت الكاتبة على أن تبقى هذه القصص في إطار القصة القصيرة ،فقد جعلت هذا الامتداد والتعدد بتقنية العودة للخلف والتذكر .
-تبدو في المجموعة القصصية حرارة العاطفة وقوة الوجدان ،واللغة الشاعرية وهو أمر نجده كثيرة في القصص التي يكتبها الشعراء ،وقد أدرجت أربع قصائد في قصتها الأمسية بصورة طبيعية فالقصة تحكي عن أمسية أدبية ثقافية .
-مما لهذه المجموعة أنها سردت بأسلوب السارد العليم فتألق الحكي ولم تحد من انطلاقاته قيود الذاتية والحكي المباشر.
-التزمت الكاتبة اللغة الفصحى السهلة الأقرب إلى الواقع والواقعية ،مما أعطي قوة للجمل والأساليب والعبارات خصوصا ما اشتمل علية التعبير من بيان وبديع ، يؤكد غلى الحالة النفسية للأبطال مثل قولها في قصة ملامح :”..تكشفُ يوما بعد يومٍ فلسفةَ الحياةِ ما بينَ النزاعِ ، والجدالِ ، والحوارِ والموتِ حيثُ تهدأُ العواصفُ حينا ، وتشتعلُ البراكينُ حيناً داخلَ القضايا فيرتجفُ الحرفُ ، ويصنعُ الكلمةَ ، ويستخرجُ سبلَ الخيرِ ؛ لكى تعرفُ النفسُ الحقيقةَ ، وجوهرَها ، وما يلائمُها من معرفةٍ ؛ فيهتزُّ جبلُ الوعي، ويرسمُ الملامحَ.”
-لقد تألقت الذات الشاعرة سردا ،وتألقت الإنسانية في ملاحم كفاح البطلة في أغلب القصص ،وكيف تحقق النجاح بالتضحيات والصبر والإخلاص ،وهذا ما يجعلنا نحتفي بهده المجموعة المميزة ،ونتمنى للكاتبة المزيد والمزيد من التألق ،وأن نتطلع قريبا على الجديد المميز من إنتاجها الأدبي شعرًا وسردًا .