
الطلاق… حين يصبح واجبًا وطنيًا
بقلم الدكتورة/ لمياء موسى

أكتب إليكم قرائي الأعزاء من قلب الواقع، لا من صفحات الكتب. أكتب لأرفع الستار عن وجعٍ لا يُحكى في النشرات، ولا يُدرّس في المدارس.
لأني أؤمن أن الوعي لا يبدأ بالمعلومات، بل بالإنسان.
لن أتحدث هنا عن الزواج وأحكامه الشرعية، ولا عن المودّة والسكن والرحمة، ولا عن حاجة الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، ولا عن الأسرة بوصفها نواة المجتمع، ولبنة الدولة، وحضنًا ينمو فيه الأطفال بثبات وأمان.
كما لن أخوض في أحكام الطلاق كما وردت في الشرائع السماوية، ولا في الحالات التي تلجأ فيها المرأة إلى الانفصال، أو الدوافع التي تدفع الرجل إلى الفُرقة.
فكما اعتدت في مقالاتي، أترك ما كُتب في الكتب، حتى لو كانت تلك الكتب مقدّسة، وأنزل إلى أرض الواقع، حيث تكمن المأساة الحقيقية…
لأننا – وللأسف – كثيرًا ما نُقصّر في العمل بما نؤمن، ولا نهتدي بهدي ما نُقدّس.
لو كنّا نستنير حقًا بكتاب الله، ونسير على خطى نبيّه الكريم، ونهتدي بسنن الأنبياء والصالحين، لما وجدت نفسي مضطرة اليوم إلى الكتابة عن واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا في مجتمعاتنا العربية.
قضية تئنّ تحتها نساء كثيرات، ولا يسمع أنينهن أحد.
أتحدث عن تلك العادات والتقاليد التي تتناقض مع أبسط القيم الإنسانية، والتي نُورثها جيلًا بعد جيل، دون مراجعة، في مجتمعات ما زالت ترزح تحت وطأة الجهل والفقر، وتُخدَّر ضمائرها بسلطة العرف لا العقل، والعيب لا الرحمة.
ومن أبرز هذه العادات: زواج الفتيات الصغيرات، أو بالأحرى “بيعهن” بثمن بخس من قِبل آباء لم يفهموا الدين إلا قشوره، ولم يفقهوا من الأبوة سوى ما يُخلي ذمتهم من “عبء”.
فتُساق الفتاة في لحظة إلى مصير لا يشبهها، تُربط برجل لا تعرفه، ولا يليق بها لا عقلًا ولا روحًا، وتُمنَع حتى من الحلم بالخلاص، لأن صوت العرف أعلى من صوت الحق، وأقسى من صوت القانون.
تتخلى عنها أسرتها، وتقصيها بيئتها، فلا سند لها في وجه العنف أو الإهمال أو القهر، ولا مجتمع يكفل لها كرامة العيش، ولا قانون يُنصفها كما يليق بآدميتها.
فإلى أين تمضي هذه الفتاة؟
من يحمل عنها عبء الظلم؟
من ينتصر لها حين يسقط الجميع؟
نتغنى ليلًا ونهارًا بحقوق المرأة، وتمكينها، وحرية اختيارها… لكن، هل تلك الحقوق مُتاحة للجميع؟
أم أنها تُمنح لفئة محددة فقط؟
هل ننحاز فقط للمرأة التي تمتلك صورة وصوتًا ومساحة في الإعلام؟
أم ننحاز لتلك التي سُحقت تحت سلطة الأب، ووُئدت طفولتها في زواج قاسٍ، ثم طُردت خارج الحياة حين طلبت الطلاق؟
إنها الطائفة المنسية،
النسوة الصغيرات اللاتي كبرن في الظل،
واللواتي لم يعرفن من الزواج سوى اسمه،
ثم صُدمن بواقع لم يُخيّرن فيه.
أردن الطلاق… لا لأنهن عاصيات، بل لأن الحياة التي فُرضت عليهن لا تُشبههن.
لكن من يُنصفهن؟
أهلٌ يرون الطلاق فضيحة،
مجتمعٌ يرى المطلقة وصمة،
ومؤسسات لا ترى إلا من يلمع في الصحف.
هؤلاء النسوة… لا ناصر لهن ولا معين.
زواج مبكر، دون تفاهم، ثم رفض مشروع للانفصال، ثم خذلان من الجميع.
ليس لهن مال، ولا عمل، ولا مأوى.
تخلّى عنهن الجميع.
وحتى القانون – في كثير من الأحيان – لم يمنحهن أدوات الاستقلال.
والزوج، حين يعرف أن لا قوة تسندها، يُمعن في أذاها،
لا رحمة في قلبه،
ولا ضمير يردعه،
فهي وحدها… تمامًا وحدها.
أين مؤسسات الدولة من هؤلاء؟
أين هيئات الشؤون الاجتماعية؟
أين مشاريع التمكين؟
أين القانون الذي يُعطي المرأة حق الحياة الكريمة بعد الطلاق؟
أين مأوى يليق بكرامتها، ووظيفة تؤمّن قوت يومها؟
أين هم منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات حماية المرأة؟
هل خُلقت هذه المكاتب لتركّز في العواصم فقط؟
هل أُنشئت لتخدم فئة من النساء دون غيرهن؟
أين خططهم ومكاتبهم في القرى، في الأرياف، في المناطق المنسيّة؟
أين الدعم الحقيقي، لا الورقي؟
نعم، الطلاق أصبح واجبًا وطنيًا…
حين يُنقذ فتاةً من حياة لا تشبهها،
من زواج لا يحتمل،
من جحيم لا يطاق.
نعم، الطلاق رحمة…
حين تتحول الحياة إلى قيد،
والحب إلى وجع،
والأمان إلى ساحة معركة.
فإلى متى يُطلب من هؤلاء النسوة الصبر؟
وإلى متى تُهان إنسانيتهن باسم العادة؟
وإلى متى تظلّ القوانين عاجزة عن إنقاذهن من الظلم؟