
الكاتبة سعاد سليمان بين حكايات منسية - سيرة غيرية
بقلم الكاتبة / إيمان أحمد يوسف

سيرة ناس عاشوا خارج الزمن
رواية سطورها من وجع، عامرة بالقهر، و(بورتريه) الصبر، الذي يزج الموت بعيداً لتتجرع النفوس مرار الفقر الذي ترويه المؤلفة بين وقائع تاريخية وجغرافية بنوبات عميقة مؤلمة، تعطل سباق الزمن بمفاهيم عقيمة، وعادات وتقاليد خارج صناديق الذهن، تتمحور في خزائن العبودية ومشاعر الغضب بيوميات تثير الرعب أحياناً والحرب أحياناً أخرى، برسائل يومية بين الغثيان والوجود والعدم، بعناوين رقص الأعراف والتقاليد وقراءة الذات التي تتجرع دوماً كؤوس الألم، كما ذكرت سعاد ص ١٣:
(هو أبى الذى جرعني كؤوس الألم)، أرهقني أربعين عاماً، شارفت خلالها على قتله والانتحار، كي أنهي عذابي.. طيلة هذا الوقت لم أتعرف عليه، لم يتضح لي أبداً، هو يرى أن البنت إذا تبسم لها سن، فجرت، دائماً ينعى حظه من خلف البنات. وتسرد سعاد بالعامية: “يا عين ما تبكين على اللي مات، ابكي على اللي خلف بنات”.. تسبق يده لسانه، لا يفهم ولا يتفاهم، بالمطواة يقص شعري، ألمح خصلة منه على جبيني، يذبح أظافري بالموس إذا طالت، يقول: “كل مع الكافر ولا تاكل مع طويل الضوافر”..
ياه .. سنوات من الرعب والقسوة والقهر عشتها، تلاشت، تبخرت، تغير أبي ما تبدل في حكاية .. (بركان من الذكريات المؤلمة ص٤٤ -٥٥
استردتني أمي من شرودى: أيوة يا أما. (وتعود سعاد لتقول): أريد أن أمحو هذه الصور المرعبة، نمت محلِّقة بين سحب حكايات تظلل رأسي، لا أعرف إلى أين تأخذني، تتمحور سطور رواية سعاد سليمان في إرادة وعاء الذات، يا لها من رسائل من الأحزان تشق النفوس، ولا توجد معجزة تبطل إطلالتها بين الحين والآخر، غير الإيمان المصبوب في النفس السوية التي تؤمن ب (لعل الله يحدث بعد ذلك شيئا جميلا)
وكما ذكر مصطفى صادق الرافعي فى كتابه (فلسفه الجمال والحب): “ولولا سطوة الأقدار فيما يحب الناس، كان الناس ملوا، فإن كثروا يقلوا كي يعودوا كثارا، ثم إن كثروا يعلوا مسائل ما لها حل، ولكن إذا نسيت ففي النسيان حل؟”.
منذ أن قرأت رواية حكايات منسية للكاتبة والإعلامية القديرة سعاد سليمان، أصبحت الشخصيات معي طوال الوقت كأنني أسجل تاريخ أيامهم وأحيا بها كراويها، بأجزائها، والقسوة مع كل لفظ ولطمة على الوجه، أو حزن وأسى الأم، والأب الفقير الساخر أحياناً من استشعار مشاعر زوجته وابنته عالية، التي تم سرقتها من نجاح أحلامها الطفولية ومعالم عالمها، والأنا التي صنعتها لذاتها لتبقى على قيد الرواية بينها وبينهم، لتصنع عالم اجتهاداتها وإصرارها على أن البنت أفضل من الولد – وتقسم ملامح العادات والتقاليد التي تغوص في الجهل وعدم الإدراك بأن الوعي والثقافة أبطال الحماية الاجتماعية والشخصية للإنسان المصري. عندما تقرأ الرواية، تتلقفك الفجوات والأعاصير الداخلية والخارجية لعالم الرجال .. الجهد الكبير في السرد النفسي والاجتماعي والتاريخي واضح جدا للكرة اللاعبة بموازين العقل والقلب التي تتمحور داخل الرواية، وتذكرنى بفيلم الأرض لعظماء الممثلين الذين شاركوا فيه وعبروا بصدق عن معنى الأرض لدى المصري، ومدى تحمله لمظالم الواقع والبشر وقسوة التفاعل والعبودية. الرواية تصلح لأن تكون فيلماً سينمائيا أو مسلسلا تليفزيونيا لما بها من مصطلحات مثل (البرجوازية والبرولتياريا)، التي تسحق طبقة العمال الكادحين و(السيكوباتية) العدائية أو النزاعية بين البشر في عهود الإمبريالية الاستعمارية لصالح البراغماتية، أي المنفعة والمصالح الدكتاتورية والحكم الجبري والقهري. تتناول الكاتبة المبدعة سعاد سليمان مراحل تاريخية مهمة، تلضم بها الحكايات من الصعيد إلى الاستعمار إلى الإسكندرية إلي نابليون بونابرت، بشخصيات قابعة في الأزمنة إلى ثورة ١٩٥٢. توثق الحياة بحروبها المبعثرة فى وديان القسوة والتعذيب والتعددية والنفس البشرية، وعلاقة عالية التي تدور بها الرواية في كل أبوابها على العلاقات بين الأهل والأم والأب والجيران، وطقوس الصدق والأكاذيب وسلبيات انحناءة مستوى الأخلاقيات المضطرة لأفعال خاصة لإرضاء المساحة الدونية الداخلية للبشر، والشر المحوري في بعض الشخوص. تأخذنا الكاتبة في رحله مع السيرة الهلالية في ليالي الصفا والشاعر الكبير الأبنودي ص 200، بروعة الحكي والدموع، وتدور بنا ما بين حكايات الوطن وحكاوي قرية الصوامعة غرب مركز طهطا.
تضفر الكاتبة الأحداث لتسرد تاريخاً منسياً ليونس وأولاده، وعودة الأسير، وسطوة لملوم على البلد والعمدة، وعادات الصعيد قبل زحف المدنية، ولماذا تكون الإسكندرية الخيار الثاني لفقراء الصعيد بعد القاهرة.
حكايات تولد من رحم أخرى، وكأنها لا نهاية لها، لفرط واقعيتها تكاد لا تصدق، وتعنون حالتها بسيرة ناس عاشوا خارج الزمن لتشوقنا بشغفها وسردها: (تلك هي الروح التي أبقتني على قيد الحياة.. نعم .. أنا بنت اللين والأسى كما يقول أبي، أملك أخطبوط مجبر على تسلق الجبال، ظهري مرتع للأحمال، الأسى مكتوب على جبيني، أهادن الحياة حتى لو بغت، قادرة على التجاوز، أمحو أمسي بكل أوجاعه، أستقبل يومي بحلم جديد، بطاقة تملك لمس أهداب السماء، “هذه أنا”.)
فعلاً صدقت الكاتبة إنها هي الواثقة دوماً منمنمات ذاكرتها وذكائها فى تقسيم روايتها إلى محطات حتى لايمل القارئ من رحلات سفرها بين المحافظات وطقوس النفوس البشرية في مجرة قلمها وقبضة حبكتها الدرامية. وتوصيف أبطالها المتحكمة في عرض أقوالهم بحرفيه تتناسب مع حبكة الحكايات تصف وصفاً دقيقاً للوجوه والكلمات والصراعات كأنهم أمامك يتحركون بين سطور الحدث أو صندوق التلفاز. تصف الملابس وتتكلم بلهجات إقامتهم وصراع الواقع والحلم والتأصيل الوجودى المتفاعل مع الأفكار بينهم وبشكل واضح كأنك معهم أطراف الرؤية سواء في رفض الأعراف أو قولاً تشعر الحياوات بين المهمشين والمنحرفين باعتباره مشهور من عالم التحدي يتخلله لحظات ثقيلة الوطأة لحظات من تاريخ سقوط الأقنعة تخلد الكاتبة سعاد سليمان الوقت على الورق بدقة استطاعت أن تترك أثراً في ذاكرة القارئ لتكون الكتابة كسكين تمزق بكل الأحزان وفوضى قبول القيود وعبودية المفعول به تجعلك تتعاطف مع الشخصيات وتثور وتهتف معهم لترى أمواجهم الغاضبة في (ص55) اعتراف تسجله البطلة عالية لأمها قولى يا أما. فضحني يا بنتي بعد ما خدني بالغصب، حكى للعيال الصغيرين اللي حصل بالتفصيل، ولد أخوه وأخته ، كانوا يبصولى وعينهم تقول شوفنا حالك، نحس إني عريانة قدامهم منذ ليلة الدخلة، حتى قبل موته بشهور قليلة رغم بلوغه سن السبعين عاماً، هي تصغره بعشر سنوات في حجر المأوى، يلمس ضفائرها الطويلة يلفها في قبضة يده، يجرها على الأرض، لم يقل إنه ضربها ليلة الدخلة حتى كسر ذراعها، لأن الضرب كان قرين حياتها . بمجرد النجاة من تحت يده وخروجه، تربط جروحها، تلبس ملاءتها اللف السوداء المخصصة للخروج، تذهب لبيت عمها زهقانة حتى يعيدها.
(تقول عالية: أبدا لم أفهم عالم أمي)، عنف متكرر من أبي يقابله جنس ناعم، أسمعه وأنا أتقلب على سطح من برد تحتي، وجمرة نار من فوقى
أسمع بأذني تأوهات أمي ومناداتها لأبي “يا حبيبي وأخويا حسك في الدنيا، ما يحرمني من دخلتك عليا”، هكذا أستعيد خيوط الحكاية، تستطرد عاليا عاشقة جهاز التسجيل الذي يسجل أقوال وأحداث ما حولها، تقول الأم: خايفة أبوكي ييجي يفتكر إني حتشتم أهله، لملمت أمي شتات نقلنا: يلا .. أيام وراحت لحالها، حتى لو رجعت ما عاد حرص الحبايب عايشين كل اللي نعرفهم راحوا. يقول الشاعر فؤاد حداد: كأن الحياء ذكرى، وهو تشبيه الحياء بأنه ذكرى، سواء أكانت ذكرى جميلة أم حزينة، فالذكرى تظل عالقة في الأذهان لارتباطها بوقت ومكان معينين.. إن السيميولوجيا تبحث العلامات في الحياة الاجتماعية وغيرها الذي ساعد في معرفتي محاور هذه الرواية، وفك طلاسم رموزها الزمانية والمكانية، وإطلالة المشكلات المتعمقة في ثنايا السطور السردية المأزومة بتداخلات متفرعة لكل فرد من شخوص الرواية، وفى سياق الحديث عن الرواية (ننتقل إلى كتاب الدكتورة مكارم الغمري وهو بعنوان: ( الأدب الروسي شاهد على العصر)، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، يمكن ملاحظة اتجاه الرواية الحديثة إلى الاهتمام بالموضوعات المتعلقة بالأسرة ومشاكلها، كما في قصة (في سمين) بعنوان سبعة في منزل واحد ١٩٦٥)، ورواية (عاتريفونوف) المبادلة 1969، وأيضاً الاتجاه نحو النفسية والولع بالموضوعات النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تعالج مشاكل الفرد في علاقته بالآخرين. ومن أبرز الأمثلة رواية منزل على الجسر (٩٦٧) ورواية فالنتين راسبوتين
( ١٩٧٤) وهى الرواية التى حازت على تقدير أدبي كبير لتناولها مشاكل أخلاقية مهمة، وتتميز عن غيرها بالقدرة على النفاذ إلى الحياة الداخلية للشخصية، وشراء الديالوج ودراميته، وعندما نقارب هذه الوجهات النقدية نجد أن رواية حكايات منسية بها لمحات من كل ما سبق، في مناخ لا يسمح بالتحرر من القيود المحكمة لتقاليد الواقعية. ويمكن الإشارة إلى بعض الموضوعات المتغيرة في الرواية في الخمس عشرة سنة الماضية مثل موضوع المدينة والقرية، ومشاكل الحياة المعاصرة، والتقييم الناقد للحقبة التاريخية، وأيضا فقد الفردوس والحياة السخية بالعطايا. أما النذالة والدناءة، فنجد تجسيداً لهما في صور بعض الشخصيات التي تظهر في الرواية، وإن كان هناك خير متاح للحركة أمام الموهبة الإبداعية للكاتبة والقدرة الخلاَّقة التي حافظت عليها لبناء صفاء الفن الروائي، فقد ساعدت على الإمداد بكلمات وسيطة لتوصيل المعنى الإدراكي بالواقع والموضوعية وتلقائية الوعي، التي برزت في قدوة ملهمة للحبكة الدرامية لنسيج سيرة ناس عاشوا خارج الزمن، وعن شدة الصراع بين القديم والحديث بمعطيات الفترة، الصراع الطبقي متعدد اللقطات والزوايا، والقضايا التاريخية التي ظهرت في جدل وحوار الأزمنة، ما بين الانغلاق في صناديق التقاليد والانفراجة الزاحفة للبراح (حتى أصبحت البطلة عالية) هي البطل الإيجابي وحجر الأساس في دائرة الرواية، ونبراس الطريق بالحبكة التلقائية والوعي بمفتاح وثائقي لتاريخ حقبة زمنية معينة، وعلاقة الأرض والطبيعية بالماضي والحاضر، والمستقبل الذي يتخلله العلم والإيمان، ومشاعر الحزن والتوق إلى حياة أفضل، وثناء على حاضر جديد في منولوج الشخصيات فى الرواية. ويحضرني مقولة ل (فاوست جوته) “إذن من أنت فى النهاية؟ أنا جزء من تلك القوة التي تريد الشر أبدا وتضع الخير أبدا”.
هنال أكثر من خط مضموني في الرواية، حكايات منسية، التراجيديا والخروج من إطار المنهج الحزين الذي يعتصر بعض الشخصيات في محافل الإحباط واليأس، ويستطيع المحظوظون الانفلات من هذا، ونضرب المثل بما قاله الأديب الروسي سولجيننتشين: (الفنان وحده هو الذي يُمنح إحساس مرهف جداً)، بدأ بالانسجام في العالم، بجمال العطاء الإنساني وقبحه، وهو الذي ينقل في رهافة هذا الإحساس إلى الناس، هذا الإحساس القوي بالانسجام لا يمكن أن يفارقه في الفشل، في حضن الوجود، في الفقر، في السجن، في المرض). ومن خلال الانسجام تأخذنا سعاد سليمان بروايتها إلى محيط آخر، حيث لا يمل القارئ خلال رحلتها في حوار اللهجة الصعيدية، التي تنقل لك جغرافيا المكان بعاداته وتقاليده وخصائصه الفسيولوجية، فاللهجة تفتح أبواب آفاق ثقافة المكان والقوانين المحددة للحوارات بين الشخصيات، التي تتبناها بدور الراوي العليم ببواطن أمور تحركات عالم الرواية.
إلى (ص ١٣٧) (غرفة بحجم السرير)
(لا أتذكر رحلتي وأمي من النجع إلى الإسكندرية، كأن عفريتاً انتزعني من هناك، إلى تلك الحجرة الصغيرة، على شمال الداخل من بيت عتيق غرفة لا تتسع إلا لسرير نحاس بأعمدة، ألعب فى عرائسها التي تزينها، لا نملك غيره (عفش) نأكل فوقه، ننام ثلاثتنا أنا وأبي وأمي، نجلس عليه، كل حياتنا فوق هذا السرير، تحت السرير تسكن أشياؤنا — الحلل والوابور الجاز، صرر خزين البيت، ينضم إليه ليلاً جردل أبي الصاج وأكواب زجاجية يبيع فيها نهاراً عصير ليمون).
تتناول المؤلفة في هذه المحطة حياة صعبة من خلال وجودها مع الفقر والجيران والحمام المشترك، والحكي النسائي بالحارات الداخلية للإسكندرية، وتعجب الجيران من جمال الأم التي تشبه هدى سلطان الفنانة والمطربة، كيف تتزوج هذه الجميلة من (هذا الرجل الصعيدي القبيح أبي)
وترد الأم: (قسمة ونصيب، حكم بلادنا واعر)، تنقلنا الكاتبة إلى معالم أخرى بعد أن انتقلت الأسرة إلى حوش آدم ص (142) في كتابة الذات وقراءة في خطاب الهوية ثلاثية أحلام مستغانمي نموذجاً، كتاب للدكتورة الناقدة سوسن ناجى إصدارات هيئة الكتاب – تقول أحلام: (دون أن أدري أن الكتابة التي هربت إليها من الحياة، تأخذني إلى منحى انحرافي نحوها، وتزج بي في قصة ستصبح صفحة بعد أخرى قصتي)، هكذا نلمح عالية كما تقول الكاتبة الكبيرة المبدعة سعاد سليمان، الراوي العليم، هنا تظهر تناقضات المجتمع الصعيدي والمسكوت عنه في التقاليد والعادات، حتى لو انتقل أهل الصعيد إلى القاهرة أو الإسكندرية، فإنهم يلبسون أقنعة لكنهم (ص 142) يخافون من الغموض، الخوف هنا دين الناس، راحتهم في معرفة ما تخفي القلوب، قد يقتلون بعضهم للكشف عما تحمل صدورهم، وتكمل سعاد، خاصة الصعايدة الذين يبحثون عن بعضهم البعض، يكوِّنون عزوة، ينقلون بلدهم معهم، الأهل والأقارب ذاتهم، الطعام، الحكايات، اللهجة، الرقص الغناء، الموسيقى (الطبل الصعيدي) مقهاهم الذي يجلسون عليه، يخصهم وحدهم، تختلف المهن لكنهم كتلة، عندما تزيل قشرتها الخارجية يصبح الجوهر واحداً.
وتستطرد الكاتبة، تقول أمي: (الصعايدة في إسكندرية عاملين زي عروق المؤخرة يتشدوا ساعة دخول الحمام)، أما بيت باولو، أشهر البيوت وآخرها (ص ١٥٣)
(حشقدم) يبدو من اسمه أنه ملك لأحد الأرمن أو اليونانيين، فخلا من سكنى الصعايدة، السبب المعلن وجود سوسن الراقصة، نسخة طبق الأصل من سهير زكي الراقصة المشهورة..
(ص 172) بعنوان (حافظة) تحدثنا الكاتبة عن صعيدية أخرى، حيث تتعدد الوجوه النسائية في الرواية، تحدثنا عن حافظة، والرضا هو قانون حياتها، هي العقل المدبر والمحرك لكل شئ، بنك متنقل، أو بالأدق بنك مستأجر، أشطر من يفك زنقة المحتاج لا ترد أحداً، بيتها ملجأ للصعايدة الأقربين والأبعدين، رجال ونساء، لا يخشى زوجها عليها من الغرباء الذين يحلون ضيوفاً دائمين أو عابرين.. يتعامل الجميع معها على أنها رجل، لا يجرؤ أحد على أن ينصب عليها، من يخسرها فقد ضاع منه الظهر والسند، تطوف بنا الكاتبة القديرة بين حواري و شوارع النفس البشرية، تتجول بين حكايا واقعية وصفِية لمحتوى الشعور الحسي الانفعالي بشحنات المزاج النفس الانطباعي عن المنازل والبشر والدوافع، وما بداخلها، تجعل القارئ يرى بعين التفاصيل والجغرافيا السحرية، والجاذبية التي ترمح في طرقات الأسطورة والسرد، كأنه وهج على صفحات تتألق لتذوب على سطور خزائن الإبداع، بطعم السحر ومنمنمات التفاصيل والصبر، تسافر بك إلى شخوص وعوالم مختلفة بتقنية أشبه بالصرخة، مغلفة بالاستغاثة ومخالطة الأهواء والمتغيرات، والبحث عن لقمة العيش والأمان أو الصراعات مدى الحياة، واستعراض حياة المهمشين والبسطاء أو الأبطال، حتى عندما تسأل والدها دوماً ويجيبها عن حرب 1956 ، وأنه كان جند مشاة مجند، أما أخوه عثمان فقد اشتغل غفيرا، (العمدة كان محتاجه، ظبط له ورقه ونفد من التجنيد).. وسرد لها قصة عمها أحمد واشتراكه في حرب١٩٤٨، ويقول: (أخدونا من الدار للنار، لا شوفنا تدريب ولا نعرف شيء غير حكايا توجع القلب عن اليهود اللي بيقتلوا الفلسطينيين).
تعكس الرواية المجتمع الصعيدي خصوصاً الجنوبي، بكل جوانبه والتعامل مع المرأة بالأمثلة الشائعة،
(يا عين ما تبكيش على اللي مات، ابكي على اللي خلف بنات).. وذلك لأن المرأة في أعرافهم هي مصدر الغواية والمصائب، الأمر الذي يترتب عليه ظلمها وحرمانها من الميراث.
تذكر الساردة هزيمة١٩٦٧ المؤلمة، لكن برغم ذلك كان الزعيم جمال عبد الناصر محبوباً لدى الشعب بسبب تأميم قناة السويس، وأيضاً نزع الملكيات الزراعية الكبيرة التي كانت في حيازة الباشوات، واعتبر هزيمة 19٦٧ هي مؤامرة على الزعيم جمال عبد الناصر على العكس من موقف الأب والد الساردة، من الرئيس السادات، الذى كان (يكره الغلابة). وتأخذنا الرواية إلى النهاية (ص 223) لتقول: (انتهت إقامتنا في بيت عمي، بعد تسعة وأربعين يوماً، دخلنا ستة، تركناه سبعة، ودعنا حارة حوش آدم، لكن البيت الذي عشت فيه ست سنوات، لم يترك أحلامي).. (إلى اللقاء في الجزء الثاني إيواء مؤقت).
هكذا أنهت الكاتبة سعاد سليمان روايتها بوعد للقارئ للجزء الثاني، لتشوقنا للقادم بحكايات تولد من رحم أخرى، وكأنها لا نهاية لها لفرط واقعيتها تكاد لا تصدق.
(سعاد سليمان، كاتبة مصرية، حاصلة على جائزة اتحاد كتاب مصر عن رواية (غير المباح)، وجائزة متحف الكلمة العالمية عن قصة (تشابه)، وشهاده تقدير من المجلس الأعلى للثقافة، لمجموعتها القصصية (هكذا ببساطة).
صدر لها عدد من الروايات والمجموعات القصصية منها: آخر المحظيات، هبات ساخنة، شال أحمر يحمل خطيئة الراقصة.. صدرت رواية (حسابات منسية) سيرة ناس عاشوا خارج الزمن.( الدار المصرية اللبنانية، ٢٠٢٤)