
اللعبة السردية وتعدد الأصوات في روايتي أنا شهيرة / أنا الخائن لنور عبد المجيد
بقلم الكاتبةالدكتورة/ نجلاء نصير

في ظل تحولات السرد العربي الحديث، وتزايد الاهتمام بالبُنى النفسية والاجتماعية في الرواية، ظهرت أعمالٌ تبنّت رؤية سردية جديدة، تقوم على تقنيات مغايرة للبناء التقليدي، ولعل من أبرز هذه الأعمال روايتا “أنا شهيرة” و”أنا الخائن” للروائية نور عبد المجيد. فقد اختارت الكاتبة أن تُفكك حكاية واحدة إلى سرديتين متكاملتين ومتضادتين في آن، وهو ما يُعد تطورًا لافتًا في بنية السرد العربي من حيث التقنية والدلالة.
أولاً: الراوي وضمير السرد
يمثل ضمير المتكلم في الروايتين أداة قوية للتماهي مع السارد. فاختيار نور عبد المجيد لهذا الضمير ليس اعتباطيًا، بل يعكس رغبتها في إدخال القارئ في عمق التجربة النفسية لشخصيتي شهيرة ورءوف، على نحو يُضفي طابع الاعتراف الشخصي على السرد. “شهيرة” لا تروي قصتها من الخارج، بل من قلب التجربة، بمزيج من الوجع والقوة. أما “رؤوف”، فيقدم صوته من داخل صراع الذكر الشرقي بين رغباته وتقاليده، بين ضعفه وقناعته الذكورية
ثانيًا: التناوب السردي وتعدد الأصوات
الروايتان تشكّلان معًا ثنائية سردية متكاملة، تعتمد على تقنية التناوب أو “البناء التبادلي”، حيث تتكرّر الوقائع من وجهتين مختلفتين، دون تكرار مباشر في اللغة أو الشعور. هذا يُعزز من تعدد الأصوات ويؤكد حضور “الرؤية من الداخل”، ويسمح بإعادة تأويل الحدث الواحد على ضوء اختلاف الدوافع. كما يسهم هذا النمط في كسر التلقي الأحادي، ويفرض على القارئ اتخاذ موقف نقدي تجاه كل من الشخصيتين.
ثالثًا: الزمن السردي والتداعي.
تنحو الروايتان نحو الزمن غير الخطي، إذ تعتمد الساردة والسارد على تقنية “الفلاش باك”، واستدعاء الماضي بوصفه جزءًا من الحاضر النفسي المستمر. وهذا يُظهر أن الجرح العاطفي الذي أصاب كلًا من شهيرة ورءوف لا ينفصل عن زمن الذاكرة. بل إن السرد ذاته يُبنى كمساحة للشفاء أو محاولة للفهم. وهذا ما يشي بانزياح السرد العربي الحديث نحو معالجة الذات بوصفها مادة فنية.
رابعًا: البنية النفسية للشخصيات
لا تتشكل الشخصيات من خلال الحدث فقط، بل من خلال وعيها بالحدث. فشهيرة تتطور من فتاة عاشقة إلى امرأة مجروحة، ثم إلى كاتبة تسرد حكايتها بوصفها وسيلة للثأر الرمزي واسترداد الذات. أما رءوف، فشخصيته أكثر تعقيدًا، إذ تتراوح بين المبرر والمُدان، بين الاعتراف والتبرير، مما يُكسب الرواية طابعًا اعترافيًا نفسيًا نادرًا في سرديات الذكور في الأدب العربي.
خامسًا: وظائف البنية السردية
1- تقوم البنية السردية في الروايتين بعدة وظائف جمالية ودلالية، أبرزها
2- . منح الحكاية صوتًا مزدوجًا، يكسر هيمنة وجهة النظر الواحدة
3-إبراز الصراع الداخلي للشخصيا ت، لاسيما في لحظات الانهيار.
4-تعزيز دور القارئ في بناء المعنى من خلال المقارنة والاستنتاج
5-تحقيق توازن بنائي بين الشكل والمضمون، مما يمنح الرواية بعدًا حداثيًا .
ومجمل القول إن روايتي ” “أنا شهيرة” و”أنا الخائن” تمثلان تجربة سردية متقدمة في الأدب العربي المعاصر، حيث تُوظف فيهما البنية السردية ليس فقط كأداة فنية، بل كوسيلة تفكيك اجتماعي ونفسي لعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمعات الشرقية. لقد نجحت نور عبد المجيد في أن تقدم من خلال هذه الثنائية سردًا بقلم من حرير ، صادقًا، متقن البناء، يُعيد مساءلة المفاهيم الثابتة حول الخيانة، الكرامة، والتسامح. وتأتي هذه التجربة لتؤكد أن السرد حين يُبنى من الداخل، يصبح وثيقة فنية وإنسانية في آن.
ويتجلى ذلك في النهاية الصادمة لرواية أنا شهيرة الرواية تنتهي بـ قرار شهيرة الانتقام من زوجها رءوف بالخيانة، كما خانها، لكنها لا تقوم بالخيانة لأجل اللذة أو الرغبة، بل لتستعيد كرامتها وتضعه أمام نفس الجرح الذي سبّبه لها. في لحظة ذروة إنسانية، تنفصل شهيرة عن فكرة “الأنثى الضحية” لتصبح فاعلة، حتى ولو كان الفعل خارج القيم التقليدية.
وكأن الكاتبة أرادت أن تقول للمجتمع : إن رد الفعل تجاه الرجل يختلف عن رد الفعل تجاه الأنثى حتى وإن اجتمع الاثنان على نفس الخطيئة يرجم المجتمع الأنثى ويمنح الرجل صكوك الغفران على الرغم من اشتراكهما في نفس الجرم.
شهيرة حين انتقمت بخيانة مشابهة، قُدمت على لسان رءوف في روايته على أنها “جانية”، رغم أن دافعها هو الجرح العميق، لا اللذة أو الخيانة المجانية.
بينما رؤوف، حتى في اعترافه، لا يتعرّض للنبذ المجتمعي، بل يتحدث من موقع الندم الباحث عن تفهّم، لا عن عقوبة.