
المدينة التي تبكي بصمتها: قراءة ذرائعية في قصيدة "دموع المدينة" للشاعرة السورية جِنان الحسن
بقلم الناقدة الذرائعية دكتورة / عبير خالد يحيى-سوريا

في قصيدة “دموع المدينة” تفتح الشاعرة جِنان الحسن نافذةً على وجعٍ جمعيٍّ مكتوم، حيث تتقاطع الذاكرة الفردية مع الذاكرة الجمعية للمدن العربية التي أنهكها الخراب. النص ليس مجرد رثاءٍ لمكانٍ أصابه الحزن، بل هو تجسيد لروح المدينة بوصفها كائنًا إنسانيًا يعيش الخيبة والجفاف والخذلان في عالمٍ فقد القدرة على الحلم.
من خلال لغةٍ تصويريةٍ شفافة ومناخٍ تأمليٍّ يفيض بالرموز، تستدعي الشاعرة عناصر الطبيعة — النهر، الغيمة، الوردة، الطين — لتغدو مجازات للروح الجمعية وهي تنحدر من النقاء إلى الانطفاء. ولأن النقد الذرائعي ينظر إلى النص بوصفه كائنًا حيًّا تتفاعل فيه المستويات الفكرية والأخلاقية والجمالية والنفسية، فإن قراءة هذه القصيدة من منظور ذرائعي تكشف العلاقة الجدلية بين المكان والإنسان، بين الحزن الوجودي والعجز الأخلاقي، بين جفاف الماء وجفاف المعنى.
بهذا، تتحوّل “دموع المدينة” إلى مرآة حضارية ووجدانية تلتقط ما تبقّى من ملامح المدن حين يفقدها أهلها، وتمنح الكلمة وظيفة أخلاقية وجمالية معًا: أن تشهد، وأن تبكي، وأن تذكر.
تتمحور البؤرة الفكرية حول انكسار المدينة العربية المعاصرة، بوصفها كائنًا حيًّا يتنفّس الحزن ويكتم الغضب.
منذ المطلع “عند ذلك النهر كل شيء شاحب حزين”، تدخل الشاعرة فضاء الموت الرمزي للمدينة. فالحياة فيها فقدت ضحكتها، والغيمة الصغيرة لم تستطع أن تمطر، لأن الطبيعة ذاتها أصيبت باليباس الأخلاقي.
القصيدة بذلك تستبطن خطابًا وجوديًا يربط بين خراب المكان وخراب الضمير الإنساني.
الخلفية الأخلاقية: القصيدة محمّلة بموقفٍ أخلاقي ناقدٍ للواقع؛ فهي تُدين التهاون الاجتماعي والاغتراب الروحي وتفكك منظومة القيم.
تتجلى الإدانة في صور مثل:
“البائسون فيها يسكرون بأقوال المنجمين”،
“وأفواه العرّافين لا تكفّ عن الثرثرة”.
هنا، تتحوّل الخرافة إلى بديلٍ عن الوعي، ويتحوّل العجز إلى عادة. فالشاعرة تحذّر من الاستسلام للقدر الزائف، داعيةً إلى استعادة دور الإنسان كفاعلٍ أخلاقيٍّ في مواجهة الانهيار.
المستوى البصري (التصويري):
الصور في القصيدة تشكّل لوحاتٍ متعاقبة توزّع الحزن على مساحة المدينة:
“ترك العابرون ظلهم كوابيسهم ومضوا” : لقطة سينمائية توحي بالفراغ والغياب.
“الوردة التي ما زال يقطفها كل صباح عاشق مخادع، عطرها مالح”: تضاد بين الحب والخذلان.
“الأقدام الصغيرة المرسومة على ظلمة الضفاف غدت فراشات”: مفارقة بين الموت والتحليق.
تتحرّك الصورة من الثبات إلى الحركة، من الجمود إلى التحوّل، لكنها تبقى دائرة في فلكٍ واحدٍ هو الخراب الجمالي الذي يكسو الأشياء بلون الرماد.
المستوى اللغوي
لغة القصيدة نثرية إيقاعية تميل إلى البساطة المشبعة بالرمز.
تتكرر المفردات ذات الشحنة العاطفية: (شاحب – حزين – مهجور – عطشى – أعمى)، لتعكس تكرار الحالة النفسية للمدينة.
كما يعتمد النص على الاستعارة الحية، مثل “الغيمة الصغيرة التي لوّحت بيدها”، حيث يتداخل الإنساني بالطبيعي في أسلوبٍ يذكّر بلغة القصيدة الحديثة.
التركيب اللغوي يعتمد على الجمل الاسمية التي تمنح النص سكونًا يوازي جمود الحياة في المدينة.
المستوى الديناميكي
الحركة السردية في القصيدة تبدأ من المكان المفتوح (النهر) وتنتهي بـ المدينة العطشى التي غمرها الحزن.
المسار الحركي إذًا تنازليّ: من الأمل إلى الانطفاء.
في البداية هناك حضورٌ للماء (رمز الحياة)، وفي النهاية يُغرق الحزن النهر ذاته، في مفارقة ديناميكية عميقة تشير إلى أن الألم تجاوز حدوده الطبيعية حتى طمس مصادر البقاء.
المستوى النفسي
تعبّر القصيدة عن اكتئاب جمعي يلامس حدود الاغتراب.
تتجسّد المدينة ككائنٍ مرهقٍ يعاني من العجز، بينما تتناوب رموز الأمل الصغيرة (الغيمة، الوردة، الأقدام الصغيرة) على الانكسار.
إنها استعارة لواقعٍ نفسي مأزوم، يذكّرنا بما يسميه علم النفس “الاحتراق الجمعي”، حين تفقد الجماعة قدرتها على الإحساس بالحياة.
القصيدة تُعطي للحزن طابعًا أنثويًا حميمًا، كأنه بكاء داخلي بصوتٍ خافت يختزن انكسارات الإنسان والأنثى والمدينة في آنٍ واحد.
المستوى الإيحائي العميق
تتجاوز المدينة الموصوفة حدود الجغرافيا لتصبح رمزًا للمدن العربية المنكوبة: بيروت، دمشق، بغداد، غزة…
النهر رمز للذاكرة، والبيت المهجور ذاكرة جماعية هجرتها الأرواح، والجرار التي نام فيها الطين صورة للجمود الروحي.
حين تقول الشاعرة:
“فحزن المدينة قد أغرق النهر”
نكون أمام انقلابٍ رمزيٍّ كبير: فالماء، الذي كان دائمًا رمزًا للخصب، صار ضحية الحزن. وهذا يوازي موت الوعي الجمعي في زحمة الفقد واللامبالاة.
التجربة الإبداعية
تكشف القصيدة عن تجربة ناضجة ومتماسكة في البناء واللغة والرؤية.
توظّف الشاعرة التقنية الوصفية – التأملية دون انفعالٍ خطابي، وتعتمد على التصوير الداخلي بدل المباشرة.
إبداعها ينبع من قدرتها على تحويل الخراب إلى جمال بصريٍّ هادئ، وجعل اللغة تحمل مزيجًا من الرقة والألم.
تجربتها تنتمي إلى الشعر التأملي الإنساني، وهي أقرب إلى درويش في بعدها الوجداني، وإلى سنية صالح في لغتها الحزينة المكثفة.
في الختام:
تُقدّم جِنان الحسن في “دموع المدينة” نصًا ينتمي إلى أدب الحزن الجمالي، حيث تمتزج الشفافية اللغوية بالرمزية الكثيفة، وتتحول المدينة إلى كيانٍ روحيٍّ يعيش العطش الوجودي.
تكمن قوة القصيدة في تماسك مستوياتها الذرائعية وتكاملها: من الفكرة الأخلاقية إلى الرؤية البصرية، ومن اللغة الهادئة إلى الرموز العميقة.
أما ضعفها الطفيف فيكمن في التمادي في النغمة الواحدة للحزن دون انفراج درامي واضح، غير أنّ صدق التجربة وعذوبة الإيقاع يجعلان النص من أبرز القصائد التي تزاوج بين الهمّ الجمعي والحسّ الجمالي في الشعر العربي المعاصر.
” دموع المدينة “
للشاعرة السورية/ جنان الحسن
عند ذلك النهر
كل شيء شاحب
حزين
على أرصفتها
ترك العابرون ظلهم
كوابيسهم
ومضوا
تركت الحياة ضحكاتها على
حبال الشّمس تتأرجح
حتى جفت
الغيمة الصغيرة التي لوحت بيدها
كانت أصغر من أن تمطر
الوردة التي ما زال يقطفها كلّ صباح
عاشق مخادع
عطرها مالح
البيت المهجور على الضفة البعيدة
منذ رحيل
مقفلة أبوابه
على أحلام
غادر أصحابها وتركوها
الأقدام الصغيرة المرسومة على
ظلمة الضفاف
أسرها النور البعيد
غدت فراشات
أحاديث واردات الماء
فرغت من عذوبتها
كل ما بقي في قلوبهن
بقايا طحالب ناعمة الملمس
كالأفاعي تأسر الصياد
مقاعد الدراسة
فشلت في بثّ الدفء
في مفاصل الحروف
السواقي الصغيرة التي فتحها عابرون
في الأرض الحزينة
لن تدوم
فكلّ عشوائي قابل للإقتلاع
البائسون فيها يسكرون
بأقوال المنجمين
وأفواه العرافين لا تكف عن الثرثرة
والحديث لا يغني ولا يسمن
من جوع
عند ضفة النهر تقبع
مدينة عطشى
في طين الجِّرار قضى ليله
حزن أعمى
الأعمى الذي يقود اللؤم خطواته
لا ذريعة له تُقبل ولا تبرير
فحزن المدينة قد أغرق النهر ..