
الوحدة كفى بالله وكيلا
بقلم الأستاذة/ فاطمة قوجة

فمن استغنى فنحن عنه أغنى ،
لا بأس أن تمر بفترة صمت، لا تكتب، لا تتحدث، لا تبرر.
دع كل شيء يسكن، وأعطِ قلبك فرصة أن يُنصت لصوت الله، لا لصخب الحياة.
الوحدة
هي حالة قد تكون قاسية أحيانًا، لكن حين ترتبط بالإيمان بالله تصبح مصدرًا للسكينة والاعتماد عليه وحده دون سواه.
كفى بالله وكيلا
آية قرآنية (من سورة النساء، الآية 81)، فيها تأكيد على أن الله وحده كافٍ للعبد ووكيلٌ له في كل أموره، فهو المدبّر والحامي والمعين.
فمن استغنى فنحن عنه أغنى
عبارة تعبّر عن الكرامة وعزّة النفس. من استغنى عنّا، فلسنا بحاجة إليه، فالله هو الغني ونحن به نكتفي.
الوحدة وكفى بالله وكيلا
في زمنٍ كثر فيه الضجيج وقلّ فيه الصدق، قد يجد الإنسان نفسه وحيدًا، محاطًا بالناس، لكنه يشعر بالغربة. الوحدة ليست دائمًا عزلة، بل أحيانًا تكون وقفة صدق مع النفس، وانطواء القلب على منبع النور الحقيقي: الله.
حين يخذلك القريب، ويجفّ ودّ الرفيق، وتصبح الكلمة الطيبة نادرة، لا يبقى لك إلا خالقك. وفي تلك اللحظة، حين تتلاشى الحبال الأرضية، ويضعف التعلّق بالبشر، يعلو في القلب نداء الإيمان:
“كفى بالله وكيلا”.
إنها ليست مجرد كلمات، بل إعلان ثقة، وتفويض كامل لله، بأنه وحده المدبّر والحافظ، الكافي والمعين. ومن يختار الاعتماد على الله، لا يعرف الخيبة. ومن جعل الله وكيلاً، عاش في ظلّ الطمأنينة، مهما اشتدت العواصف من حوله.
وقد يقول قائل: “تركتني فلان”، أو “استغنوا عني”. فنرد عليه: فمن استغنى فنحن عنه أغنى. نعم، من استغنى عنّا فليذهب، فالغنى الحقيقي لا يكون بكثرة البشر، بل بالقرب من الله. نحن لا نلهث خلف من لا يقدّر، ولا نُرخص أنفسنا لمن لا يرى قيمتنا. فالعزّة لله، ولمن اختار أن تكون علاقاته نابعة من احترام الذات وثقة القلب بالله.
في نهاية المطاف، لن يصحبك أحد إلى قبرك، ولن يحمل همّك سواك، ولن ينفعك أحد إن خذلك الجميع. لذلك، اجعل قلبك معلّقًا بمن لا يخذل، واجعل وحدتك لحظة تواصل لا انكسار، وكن مع الله، يكن الله معك.
كفى بالله وكيلاً.. حين تُسند ظهرك للسماء
في لحظات الضيق، لا يبحث القلب عن حلول، بل عن أمان. وفي خيبات الحياة، لا نحتاج إلى تفسير، بل إلى سندٍ لا يخيب. هنا تمامًا… تهمس النفس المنهكة: “كفى بالله وكيلا”. ليست مجرد عبارة، بل قرار. أن ترفع عن كاهلك ثقل الظنون، وتضع كل أمرك بين يدي الله، أن تُدير ظهرك إلى الأسباب، لا لتكفر بها، بل لتُسلمها لمن خلقها، أن تقول: “يا رب، لست أدري كيف الطريق، لكنك تعلم، فدبّره لي.”
الوكيل… الذي لا يغيب
الله لا يكون وكيلاً ثم يغفل. لا يتولى أمرك ثم يُهملك. حين توكّله، فأنت لا تتخلى عن السعي، لكنك تتخلى عن القلق، تسعى وأنت مطمئن أن النتيجة بيده، وأن الخير فيما يختاره، لا فيما تتمناه. كفى بالله وكيلا هي راية المؤمنين الصادقين، الذين خاضوا الحياة بكل ما فيها من ألمٍ وخذلان، ثم فهموا:
أن لا أحد يُعوّل عليه إلا الله. حين تضيق الأسباب سيأتي وقت، تجرّب فيه كل الأبواب، وتستنفد كل محاولاتك، ثم تكتشف أن لا باب يُفتح إلا إن شاء الله، ولا رزق يأتي إلا إن كتبه، ولا قلب يظلّ، ولا صديق يُخلص، ولا طريق يستقيم… إلا إذا كان الله فيه. وحين تصل إلى هذه المرحلة من الفهم، تقولها بقلب ساكن:
“كفى بالله وكيلا” وتعلم أن الله، حين يتولى، يُدهشك، ويعطيك من حيث لا تحتسب.
التوكل… ليس تواكلًا
التوكل لا يعني الجلوس وانتظار الفرج، بل أن تمشي في الطريق، حتى وإن كان مظلمًا، لأنك تثق أن النور سيأتي من الله، أن تبذل، ثم ترفع يدك: “يا رب، تولّ أمري، فإني لا أُحسن التدبير.” وكم من قلوبٍ ذاقت السلام، فقط لأنها ردّدت هذه الجملة بإخلاص! وكم من مصائب انزاحت، فقط لأن قائلها صدق يقينه!
كفى بالله وكيلا”… لمن ضاع منه الأمل، لمن خُذل من أقرب الناس، لمن تاه، وتعب، وخاف، وأراد ملجأً لا يُخذله. قلها بقلبك، لا بلسانك فقط. وذكّر نفسك دائمًا: إذا كان الله هو وكيلك، فماذا تخشى؟ ومن ذا الذي يقدر عليك والله هو الحامي؟ كفى بالله وكيلا… وكفى.
في لحظةٍ ما من حياتك، قد تجد نفسك تسير وحدك، في طريقٍ لا أحد فيه سواك. لا صوت يُطمئنك، ولا يدٌ تمتدّ لتربت على كتفك، ولا روح تشعر بك. تبدو الحياة فجأة صامتة، ثقيلة، وكأن كل شيء قرر أن ينزوي عنك، ويتركك تواجه مصيرك وحيدًا. تلك اللحظة تحديدًا، هي ما يسمونها “الوحدة”.
لكن… ما هي الوحدة حقًا؟
هل هي غياب الناس، أم غياب المعنى؟ هل هي فراغ الأماكن، أم فراغ القلوب؟ كثيرون حولنا، لكن لا أحد منهم “معنا” حقًا. الوحدة الحقيقية ليست في العزلة، بل في أن تشعر بأن من حولك لا يراك، لا يسمعك، لا يفهمك. وأنك، رغم كل تلك الوجوه، تشعر أنك غريب… غريب حتى عن نفسك أحيانًا. ومع ذلك، فإن في الوحدة هدية لا يراها إلا من نظر بعين القلب: أن تكتشف الله في غياب الجميع. حين تُغلق كل الأبواب، يُفتح لك باب السماء. حين تخونك الكلمات، يبقى لك الدعاء. وحين تُخذل من أقرب الناس، تجد في آيةٍ واحدةٍ عزاءً عظيمًا: وكفى بالله وكيلاً. يا لهذا التعبير من عمق! كفى بالله وكيلاً … كأنك تقول: لا حاجة لي بأحد. إن خانني كل شيء، الله لا يخون. إن ابتعد عني كل من أحببت، الله أقرب. أليس هو القائل:
“إن الله يدافع عن الذين آمنوا”
“أليس الله بكاف عبده”
“ومن يتوكل على الله فهو حسبه”
كل هذه الآيات تقول لك شيئًا واحدًا: من اختار الله وكيلاً، لن يُهزم ولو اجتمع عليه أهل الأرض. ومع مرور الوقت، تتعلم درسًا مهمًا: لا أحد يدوم. الناس تتغير. القلوب تتبدّل. والمواقف تكشف. بعضهم يرحل بصمت، وبعضهم ينسحب ببرود، وبعضهم يُظهِر أنه لا يحتاجك، ولا يفتقدك، ولا حتى يذكرك. فماذا تفعل؟ تنهار؟ تبكي؟ تلوم؟ لا، بل تقولها بكل عزّة: فمن استغنى، فنحن عنه أغنى. إن كان وجودي لا يعني لهم شيئًا، فغيابي لن يكون خسارة. إن كان قلبي لا يُقَدَّر، فليكن في حضرة الله وحده. الغِنى ليس في المال، ولا في الشهرة، ولا في كثرة الصحبة. الغنى هو ألا تحتاج لأحد، وأن تكتفي بالله. أن تمشي في دربك وحدك، شامخًا، رافع الرأس، مؤمنًا أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. ألا تُنزل حاجتك ببشر، وألا تتعلّق بقلبٍ لا يحمل لك صدقًا.
أحيانًا… الوحدة علاج، فتكون باباً من نور
نعم، قد تكون الوحدة دواءً، حين تُشفينا من التعلق بالناس، وتُعلّمنا أن الله أولى، وأبقى، وأرحم. في وحدتك، ستسمع صوتك الداخلي. ستعيد ترتيب فوضاك. ستتحدث مع نفسك بصدق. ستعود إلى القرآن، لا لأنك تريد الأجر فقط، بل لأنك تبحث فيه عن نفسك، عن الطمأنينة التي افتقدتها، عن إجابة لسؤالٍ لم تجده في أحد. الوحدة ليست موتًا كما يتصور البعض… بل ميلادٌ جديد. هي فرصة لتفهم من أنت، وماذا تريد، ومن يستحق أن يكون معك حين تعود للناس.
في عالمٍ يُقاس فيه الوجود بمدى الحضور الاجتماعي، ويُربط الاستقرار بعدد المحيطين بنا، تصبح الوحدة كلمة ثقيلة، يخشاها الناس كما لو كانت بابًا إلى الفقد، لا إلى الفهم. لكنّ الحقيقة الأعمق، التي لا يُدركها إلا من سار في طريق العزلة باختياره أو اضطراره، أن الوحدة ليست دائمًا نقصًا، بل قد تكون تمامًا.
الوحدة، حين تُختار بوعي، تتحوّل من سجنٍ إلى محراب. فيها تنخفض الأصوات الخارجية، ليعلو صوتٌ واحد فقط: صوتك الداخلي. تبدأ بمساءلة نفسك، لا لتجلدها، بل لتفهمها. تتألم، نعم، لكن الألم لا يكون عبثًا… بل علامة حياة، وبداية شفاء. في الوحدة، تتلاشى الأسماء، والصور، والانشغالات العابرة، ولا يبقى إلا شيء واحد: أنت والله. تكتشف أن كثيرًا من العلاقات كانت هروبًا منك، وأن كثيرًا من الكلام كان ستارًا على الصمت الذي تحتاجه لتسمع قلبك. لا أحد يفهمك كما يفهمك الله. ولا أحد يسمعك كما يسمعك وأنت تبكي بصوتٍ مكسور في آخر الليل. ولا أحد يمنحك سكينة تُطفئ نيران الحيرة، كما يفعل حين تفتح القرآن وتبحث فيه، لا عن أجرٍ فقط، بل عن ذاتك، عن الطمأنينة، عن إجابة خفية لسؤالٍ لم تستطع أن تصيغه بوضوح. الوحدة ليست موتًا كما يظن البعض. بل هي ميلادٌ جديد. فيها تُكتشف، وتُختبر، وتُبعث من داخلك بنسخة أنقى، أنضج، وأقرب إلى الله.
حين تعود بعدها إلى الناس، تعود بقلبٍ مُفلتر، لا يتعلّق إلا بمن يستحق، ولا يتنازل عن هدوئه لأجل أحد، ولا يساوم على علاقته بربه من أجل بقاءٍ مؤقت. فلا تخشَ الوحدة، بل خف من أن تضيع في الزحام ولا تجد نفسك. الوحدة أحيانًا… هي الطريق الوحيد لتعرف من أنت، ومن هو الله في حياتك.
الختام
إن كنت تشعر اليوم بالوحدة، فلا تحزن. ربما هذه أعظم نعمة يُنعم الله بها عليك.
نعمة أن تتوقف قليلاً عن الركض
وتلتفت إلى نفسك، وإلى ربك
قلها بقلبٍ مطمئن..
حسبنا الله ونعم الوكيل
فمن تكفّل الله بأمره، لم يُذلّه بشر، ولم يُغلب من خلق
اجعلها لحظة قوة، لا لحظة انكسار
كن وحدك، لكن مع الله…
وتذكر دائمًا:
من استغنى، فنحن عنه أغنى.
كل مرة تشعر فيها أنك تبتعد عن الناس، تذكّر أنك تقترب من نفسك أكثر.
ولعل الله يُبعدك عنهم، ليقرّبك إليه، ويعلّمك أن السند الحقيقي لا يُخلق، بل يُعبد.