بين الجوع والمقاومة: قراءة ذرائعية في قصة “قوت وطن”للكاتبة السورية منى عز الدين
بقلم الناقدة السورية دكتورة/ عبير خالد يحيي
العنوان ودلالته:
يحمل عنوان القصة “قوت وطن” دلالات مزدوجة؛ فهو يعبر عن المعنى الحرفي للقوت باعتباره الغذاء الأساسي، لكنه في الوقت نفسه رمز للصمود والمقاومة في وجه القهر والاستبداد. فالوطن في هذا السياق لا يعيش على الأرض والحدود فقط، بل على قوة أهله، الذين يقتاتون من معاناتهم قوة للبقاء.
التيمات (الموضوعات) الرئيسة:
تعالج القصة عدة محاور رئيسة تتشابك فيما بينها لتعكس تجربة إنسانية قاسية، أهمها:
الحرب وتأثيرها على المدنيين: حيث تعرض الكاتبة تأثير الحرب على النساء والأطفال، لا من خلال المعارك وحدها، بل عبر الحصار والجوع والاستغلال والاضطهاد.
المقاومة النسوية: تقدم القصة نموذجاً للمرأة التي لا تستسلم رغم المحن، بل تبحث عن خيارات للبقاء بعيداً عن الخضوع والاستسلام.
الاستبداد والاعتقال: تصور القصة كيف يتحول النظام إلى أداة قمعية، ليس فقط من خلال الاعتقال المباشر، بل عبر التحكم في لقمة العيش.
التكيف مع الظروف القاسية: إذ يظهر كيف يتكيف الناس مع الموت والجوع والبرد، مما يحوّلهم إلى كائنات تبحث عن أدنى مقومات البقاء.
البناء السردي والتقنيات المستخدمة:
أ- السرد والتقنية الزمنية:
تعتمد الكاتبة على السرد الخطي المتتابع، حيث تبدأ من لحظة استشهاد الزوج، ثم تنتقل إلى حياة البطلة في ظل الحصار، وتتصاعد الأحداث حتى تصل إلى ذروتها في الأسر والتجويع.
ومع ذلك، نجد تداخلات داخلية تمنح القصة بعداً نفسياً، مثل لحظات استرجاع البطلة لماضيها ومقارنتها بحاضرها المرير، ما يمنح النص حيوية وحالة وجدانية متماسكة.
ب- الشخصية المحورية والتطور النفسي:
تمثل البطلة “ندى” نموذج المرأة التي تتحول من حالة الحزن والخوف إلى حالة المقاومة والصمود.
في البداية، نجدها حزينة على فقدان زوجها، ثم تواجه التحديات الجديدة وهي في حالة صدمة، لكنها لا تستسلم.
مع تصاعد الأحداث، تتخذ قرارها الحاسم بعدم الاستسلام، فتخوض غمار المخاطر اليومية، مما يجعلها تتحول من شخصية منهكة إلى شخصية قيادية في محيطها.
قوة البطلة تكمن في قرارها الواعي بالصمود، رغم كل ما يحيط بها من مظاهر الانكسار.
ج- توظيف المكان بوصفه عنصرًا سرديًا:
يتحول المكان في القصة من بيت العزاء إلى طرقات الحواجز العسكرية، ثم إلى المدينة المحاصرة (مضايا)، بحيث يصبح المكان ليس مجرد خلفية للأحداث، بل عنصراً حياً يعكس التحولات النفسية والاجتماعية للشخصيات.
الحواجز العسكرية تمثل نقاط الرعب والتحكم.
مضايا، بعد الحصار، تتحول إلى مقبرة جماعية تذوب فيها الأجساد من الجوع.
الحقول تصبح مسرحاً للصراع بين الحياة والموت، حيث يكمن الأمل في الأعشاب، لكنه محفوف بالموت بسبب القناصين.
الأسلوب واللغة:
أ- الأسلوب:
تمتاز القصة بأسلوب مشحون بالعاطفة، لكنه لا يغرق في المباشرة. فاللغة تتراوح بين الوصف الحسي والمجاز العاطفي، مما يمنح النص بعداً تصويرياً مؤثراً.
مثلًا:
“لمعة عينيها النجمية، التي كانت تنافس الشموع، هبت عليها رياح الزمن فأطفأتها.”
“هاهم الآن في أرض جديدة لا تمت للحياة بصلة، إلا صراخ أطفال من لهيب الجوع، وأنات الكبار.”
ب- المجاز والتصوير الفني:
تلجأ الكاتبة إلى التشبيهات والاستعارات لتعزيز الأثر النفسي للأحداث، مثل تشبيه الحصار بـ”القبر الكبير”، والدلالة الرمزية للشموع المطفأة كناية عن الأمل المفقود.
ج- الإيقاع واللغة الحركية:
تعتمد الكاتبة على لغة ديناميكية تعكس التحولات العنيفة في القصة، لا سيما في المشاهد التي تصور المواجهات بين الشخصيات والجنود، حيث يصبح السرد متسارعاً ومشحوناً بالتوتر.
البعد الواقعي والتوثيقي:
تحمل القصة طابعًا توثيقيًا واضحًا، فهي ليست مجرد سرد أدبي، بل محاولة لرصد معاناة حقيقية وقعت في مدينة الزبداني، مما يمنحها بعدًا تسجيليًا يعزّز مصداقيتها وتأثيرها العاطفي.
الخاتمة وتأثيرها:
تنتهي القصة على وقع المأساة، موت الطفل من الجوع، ملتحقًا بأبيه، حيث تتجسد ذروة الانهيار الإنساني وسط الجوع والبرد والقهر، لكنها لا تقدم نهاية استسلامية، بل تترك بصيص أمل عبر الإرادة الجماعية للصمود. ومع ذلك، فإن هذه الإرادة تظل محفوفة بالمخاطر، مما يجعل النهاية مفتوحة على احتمالات أكثر قتامة أو أكثر مقاومة.
نقاط القوة:
التصوير النفسي العميق لشخصية البطلة وتحولاتها.
القوة التوثيقية للنص، إذ يسلط الضوء على واحدة من أبشع جرائم الحصار التي وقعت في سوريا.
الأسلوب التصويري والبناء السردي المحكم، الذي يجعل القارئ يعيش مع الشخصيات تجربة الحصار والجوع.
التوازن بين السرد والوصف والمشاهد الحوارية، مما منح النص ديناميكية وحيوية.
نقاط يمكن تطويرها:
في بعض المواضع، كان يمكن التخفيف من الشرح المباشر لبعض المشاهد، وتركها للقارئ كي يستنبط دلالاتها بنفسه.
بناء بعض الشخصيات الثانوية، مثل الأم وابنة الخالة، لم يكن بنفس قوة بناء البطلة، وكان يمكن منحها مساحة أكثر لإثراء المشهد الجماعي للصراع.
يمكن التفكير في توظيف تقنيات الحلم أو الاسترجاع بشكل أوسع، لإضافة بعد نفسي أقوى، خاصة في المشاهد التي تتعلق بذاكرة البطلة قبل الكارثة.
الخلاصة:
“قوت وطن” ليست مجرد قصة قصيرة، بل شهادة أدبية على مرحلة مظلمة من تاريخ سوريا، تعبر عن مأساة الحصار بأسلوب سردي قوي، ولغة مؤثرة، وشخصيات تعكس مقاومة المرأة السورية في وجه القهر. تمكنت الكاتبة من رسم مشهد إنساني معقد يجمع بين الألم والأمل، وبين القهر والمقاومة.
القصة :
قوتُ وطن
قد تحتاج عكازاً في عزِّ الشباب وإن استقام الظهر؛ فلربما بعض الأحداث تحني منك القلب، فلا تحفظ الجوارح الود لعهد الفتوة والصبا.
كانت كفينوس في ربيعها الخامس والعشرين، لها جسد مشدود وملامح يقظة، لكن لمعة عينيها النجمية، التي كانت تنافس الشموع، هبت عليها رياح الزمن فأطفأتها؛ تلمح في ثنايا نظرتها سحائب دخان، وغيوماً رمادية استعصى عليها الهطول
– لأن بعض الطوارئ أصعب من البكاء يا أمي
خشيت عليها احتباس الدموع ودفنها للقهر، ربّتت على كتفها، ووضعت يدها على قلبها ترقيها ببعض الآيات القرآنية، بينما بدأ المعزون يخلون المنزل وصدى آيات الشهادة تتردد في أرجائه .
وجدت بعض التعزية في ذلك، فاحتضنت ابنها ذا الأعوام الخمسة، متمتمةً في أذنه:
– أنت ابن البطل وعليك أن تفخر، سنلقى صعوبات كثيرة من الآن ياوحيدي، لكننا خبأنا لها حسن ظننا بالله، وسنكون عند حسن ظن أبيك فينا، فهو يراقبنا من مكانه هناك في الجنة وينتظرنا .
نظر إليها بعينين دامعتين، لمحت فيهما ماأرادت بثه من عزم وتصميم .
هي تعلم الآن أنها أمام ثلاثة خيارات؛ إما أن تقتات الحزن بسواده حتى تموت، أو تتزوج من عابر سبيل تحت ظل رهان حظّ ابنها معه ، أو تصلب عودها في بلد انحنت فيه هامات الرجال من الحرب
– هو الخيار الثالث
قالتها بصوت مسموع كي تحفظها كل جوارحها، وتعمل لها .
قضت فترة العدة وهي تساعد أمها في الخياطة.
يوماً بعد يوم ذوت الصحة في عود أمها، ولم تعد تقوى على الجلوس أمام آلة الخياطة، ولا إيصال الطلبات إلى المشاغل في المدينة، مما اضطرها للقيام بتلك الرحلات الخطرة.
لم تكن خطرة بسبب القذائف والغارات الجوية وحدها، بل على الأرض غارات أكثر عنفاً، إذ كان عليها أن تقطع أربعة عشر حاجزاً في طريقها إلى دمشق، رغم أنها لاتزيد عن خمسين كيلو متراً؛ كانت تقضيها صعوداُ ونزولاً من الحافلة أمام كل حاجز، يقابلها صعود ونزول في دقات قلبها كلما أخذوا البطاقات، إلى أن تُعاد إليها دون ذكر اسمها بين المطلوبات.
مسلسل رعب تحضره كل يوم عندما يحتجزون بطاقة أحد الشبان ليهرب من وجهه اللون، ومن أقدامه تنبيهات العضلات، فيسحبونه بأيديهم ويتناوبون عليه ركلاً حتى يتوارى عن أنظارها، إيذاناً ببدء خروجه من حياة الآدميين إلى حياة أشباح في أقبية الاعتقال، حياة حمدت الله كل مرة على اسشتهاد زوجها قبل أن يحياها.
على أحد هذه الحواجز كان يجلس ببزته العسكرية، عضلاته ملفوفة، عريض المنكبين، وجسده قد صقلته كثرة التمرين، لم يكن وجهه بأقل قوة من جسده، تلمح القسوة في جميع قسماته؛ من عينين سوداوين جاحظتين، وأنف أفطس عريض، إلى شاربين مفتولين يغطيان جزءاً من شفته العليا الغليظة التي كانت تطبق بإحكام على غليون ينفث دخاناً رمادياً كنواياه العفنة.
– اتركي هذه البزات فهي تلائمنا
– لكنها طلبية للمشغل الذي أعمل فيه
رمقها بعينه الفاحصة وهو يفتل شاربيه
– إذن لتأخذي مقاسي وخيطي لي مثلها
وأشار إلى خيمته مع غمزة وقحة، فهمت منها المراد، فارتعدت كل فرائصها، عدا قلبها الذي استمسك بالدعاء .
استغلت قدوم دفعة جديدة من المحتجزين مع ضابط آخر، ووضعت كيس البزات على الأرض قائلةً:
– خذوها إنها لكم؛ قصدَ إلهائهم لتعود أدراجها بسلام.
عادت منهكة تجر أذيال الهموم، كيف ستسدّد ثمن القماش للمشغل، لن تجرؤ بعد اليوم على المرور من ذلك الحاجز .
حضنت ابنها وبكت بمرارة تخالطها بعض المواساة لنجاتها مما كان أصعب، لكن شبح المصاريف، وتسديد ثمن القماش أرهق تفكيرها مع بدء نفاد مؤونة الطعام.
– هوني عليك يا ابنتي لا أحد يموت من الجوع
قطع كلام أمها جلبة، وقرع أحذية جنود تجوب الحي،تتلوها عبارات استرحام وصراخ أطفال ونساء
– إلى أين تأخذوننا ؟
نزحنا إلى هنا، ولم نفعل شيئا
– المهم أنكم من الزبداني
استرقت ندى النظر من زاوية النافذة لترى سيارتين كبيرتين، تحملان عائلات من حيها والأحياء المجاورة، لم ترَ سوى نساء وأطفال.
تعرفت على صاحبة الصوت التي كانت تحادث الجندي عندما ضربها بعقب بندقيته لتصمت.
فجأة تكسّر الباب بركلة، لتجد نفسها أمامه؛ القذر الذي كان على ذلك الحاجز .
انخلع قلبها من مكانه، وهو يقهقه بوقاحة قائلاً:
– هيا لتكملي خياطتك في ذلك المعسكر، اطمئني، لن تحتاجي من القماش الكثير،
ستذوبون من الجوع، أو ربما من القصف.
دفعها بعجل، هي وأمها والصغير إلى شاحنة كتلك التي يجمع فيها المواشي، دون أن يسمح لهم باصطحاب ولو كسرة خبز .
وجمت الوجوه، وحلَّ صمت رهيب، فقد تناهى إلى سمعهم أنه قد ضُرب طوق حصار على (مضايا) التي ستصبح مأواهم، ولن يدخل إليهم أي نوع من أنواع الغذاء حتى يستسلم الثوار في البلدة.
هاهم الآن في أرض جديدة لا تمت للحياة بصلة، إلا صراخ أطفال من لهيب الجوع، وأنات الكبار .
لم تكن هذه البلدة خالية من الحياة من قبل، لكن الجيش أخرج منها معظم سكانها، ليجمعهم فيها مع من تبقى.
بعض الانعطافات القاسية في الحياة تكسر فيك حاجز الخوف بعد أن وصلت إلى منتهاه، تسلبك الكثير، لكنها تكسبك صلابة عود، وقوة روحية تصنع فيك جرأة تحدٍّ حقيقي للحزن الذي يسحبك للفناء .
بهذه القوة قرروا التمسك بالحياة، انتشروا يبحثون عن مأوىً، بدأ القصف من جديد، تركت ندى ابنها مع أمها في ركن بين جدارين، وراحت تعالج باباً متهالكاً لمكتب قديم حتى فتحته؛
حجرة متهالكة محتضنة العنكبوت بين أركانها، مكتب خشبي عفا عليه الزمن، سرير عتيق منفرد في ركن الحجرة عليه بطانية قديمة مهترئة،حاولت قدر المستطاع تخفيف مافيه من تراكمات غبار وبعض المهملات.
قضوا ليلتهم الأولى متناوبين على بطانية رثة مادفعت عن عظامهم نخر البرد .
في الصباح اجتمعوا من جديد ليقرروا كيف يتدبرون طعامهم، جمعوا ما وجدوه في البيوت من بقايا طحين مسوس، عجنوه ووزعوا الخبز على الجميع بالتساوي، شرط أن يقتصد كلٌّ في حصته، فلا يستهلك إلا كسرة خبز بحجم الكف كل يوم .
– لا أظنه سيكفينا لأكثر من عشرة أيام
قالتها ندى بحزن لابنة خالها وسط حلقةمن النسوة
– لن نعتمد عليه وحده، فلنصنع حساءً من أوراق الشجر
– لكن القناص يرصد كل حركة والذهاب نحو البساتين فيه مخاطرة
– هي ميتة واحدة، وهل نبقى نراقب أولادنا وهم يموتون جوعاً
وبدأت رحلتهم اليومية إلى الحقول بالتناوب لجلب الأوراق والأعشاب، وفي كل مرة يعودون بإصابات من رصاص القناص كان عليهم معالجتها دون أدوات تعقيم ولا بنج أو تخدير، لم يخفف عليهم تلك الحياة القاسية إلا روح التعاون التي تحلّوا بها، تسارعت الأحوال في التدهور عندما قصفوا شبكة المياه والكهرباء، وبدت البلدة فعلاً كقبر كبير .
كانوا قد احتملوا الجوع لكن بدأت العروق تجف من العطش، إلى أن تهللت فيهم البشائر حين بدؤوا يوزعون عليهم المياه بكميات شحيحة، لكن الصهاريج كانت صدئة والمياه ملوثة، لم يلحظوا خطرها إلا عندما اصفرت أم ندى وارتفعت حرارتها ،قفز الخوف إلى قلب ندى لأول مرة، فهي ممرضة وتعرف أعراض التيفوئيد جيداً، وما إن مضى يومان على مرضها حتى سحب منها آخر رمق حياة.
– كيف تتركيني الآن ياأمي
أخذت ترددها ندى على القبر بصراخ أشبه مايكون بالهمس، فقد تعب فيها كل شيء حتى حبال الصوت.
أصبح هذا المنظر اعتيادياً ،فيومياً يموت منهم واحد أو اثنان، ليتم دفنهم دون مراسم عزاء، أدركوا أنهم جميعاً باتوا في عداد الموتى .
بدؤوا بذبح القطط، وعمل حساء من ماء وقليل ملح هُرّب إليهم بعناء.
ماعاد ابنها يقوى على الوقوف، وهي مستمرة في نحت الصخر لتؤمن له القوت .
إلى أن أعيتها الحيل، فقد نفد كل شيء ولم يعد في الصخر حتى مايُنحت، فتمددت إلى جانبه تنتظر الأجل .
فجأة علا صوت المكبرات ،تمت المصالحة، وستخرجون مباشرة إلى الشمال.
احتضنت ابنها، وكم كانت فرحتها عظيمة عندما رأته يبتسم:
– قلت لك سننجو ،منذ زمن لم ألمحك تبتسم ،افتح فمك لتشرب بعض الماء المملح، ستصلب عودك ،وسأعوضك عن هذه الأيام
– أنا شبعت، هذا أبي …
رفع يده لتترنح، وتستقر من جديد إلى جانب جسده النحيل.
شقت صرختها عباب بلدة الموت تلك:
– لماذا كذبتِ عليّ يا أمي، ألم تقولي لا أحد يموت من الجوع .
تمت
#منى_عزالدين
Facebook
X-twitter
Youtube
Whatsapp