
بين العبثية والمعني
بقلم الأديبة / ريما آل كلزلي

في ظل التغييرات المتزايدة لعالمٍ يظهر وكأنّه يعج بالفوضى، يواجه البشر تحديًا وجوديًا وسؤالًا جوهريًا: كيف يمكن تحقيق معنى في سياق يبدو للبعض وفي كثير من الأحيان عبثيًّا؟
يعبّر مفهوم العبثية عن التناقض بين سعي الإنسان الدؤوب لإيجاد معنى في عالم لا يقدّم بالضرورة المعنى وعدم التوصل لشيء واضح، وعن بين البحث عن معنى كعملية مستمرّة مليئة بالتحديات. هذا المقال يستعرض العلاقة المعقدة بين العبثية والمعنى من خلال عدسة الفلسفة والأدب، مستعرضًا آراء بعض الفلاسفة مثل ألبير كامو وفيكتور فرانكل.
لفهم معنى العبثية يجب التعرف على معنى العدمية، فالعدمية: هي عدم وجود فائدة من البحث عن الهدف والمعنى، وكل شيء مجرد عبث.
والعبث هو عدم وجود غاية. يتعارض مع كلّ النّظم عن كونها دينية أو لا، فلكل نظام غاية والعبث هو اللّانظام، الذي يتصوّر الحياة تصوّرا سورياليّا*، لا هدف منه.
من هنا يتضح مفهوم العبثية بأنّه فلسفة ترتبط بالفلسفة الوجودية والفلسفة العدمية، كانت بداياته على يد سورين كيركغورد في مواجهة اللا معنى، طوّره الفيلسوف ألبير كامو، في كتابه “أسطورة سيزيف” (1942) بعد ظروف الحرب العالمية الثانية التي عززت اليأس وأدت إلى انتشار هذا المفهوم، فقدم كامو صورة واضحة عن العبثية، تتوضح بقول: “العبثية تولد من هذه المواجهة بين نداء الإنسان العقلاني والصمت غير العقلاني للعالم”. ويرى أن الحياة بطبيعتها خالية من المعنى، ولكن هذا لا يعني أن البشر يجب أن ييأسوا. بل يقترح كامو أن التمرد ضد العبثية هو السبيل لإيجاد معنى شخصي. فكما يقول: “يجب أن نتخيل أن سيزيف سعيد”، في إشارة إلى البطل الأسطوري الذي حُكم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة جبل لتتدحرج مرة أخرى بشكل لا نهائي، والسعادة تأتي من النضال ذاته، من قبول العبثية والتمرد عليها في الوقت نفسه.
أما فكرة البحث عن الهدف في وجه العبث، فيعززها فيكتور فرانكل، الفيلسوف والطبيب النفسي النمساوي، الذي يقدم رؤية مختلفة ولكنها مكملة لفكرة كامو في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى” (1946)، حيث يستعرض تجربته في معسكرات الاعتقال النازية ويبين كيف أن العثور على معنى في الحياة يمكن أن يمنح الإنسان القوة للاستمرار. فيقول: “المعنى لا يأتي من الظروف الخارجية بل من الطريقة التي نختار بها الاستجابة لتلك الظروف”. بالنسبة لفرانكل، المعنى ليس شيئًا يمكن العثور عليه في العالم الخارجي بل هو شيء نصنعه من خلال تجاربنا واستجاباتنا للتحديات.
على الرغم من التباين الظاهري بين رؤيتي كامو وفرانكل، إلا أنهما يتشاركان في نقطة أساسية: المعنى يمكن أن ينبثق من مواجهة العبثية. فحين دعا كامو إلى التمرد المستمر ضد العبثية من خلال إيجاد معنى شخصي في النضال ذاته، كان يؤكد فرانكل على إمكانية العثور على المعنى من خلال التجارب الشخصية والعلاقات والإنجازات.
تعكس الفنون والفلسفة والأدب الصراع البشري مع العبثية والسعي للمعنى على سبيل المثال الأدب غالبًا ما يقدم شخصيات تواجه حالات من اللا معنى، وتسعى لاكتشاف الذات حيث يصوّر كامو في روايته “الغريب” بطل الرواية مورسول الذي يتعامل مع عبثية الحياة من خلال قبولها بشكل بارد وغير مبالٍ في تصوير يعكس فلسفة كامو بأن التمرد ضد العبثية يمكن أن يكون وسيلة لإيجاد المعنى.
ويمكن القول إن العبثية والمعنى ليسا متناقضين بقدر ما هما مكملان لبعضهما البعض، فيكون للإنسان قادرًا على أن يجد المعنى من خلال التمرد ضد هذا العبث والبحث المستمر عن القيم الشخصية والهدف تحت مفهوم الإيمان. سواء من خلال رؤية كامو للتمرد العبثي أو من خلال فلسفة فرانكل في البحث عن المعنى، يبقى الهدف هو تحقيق حياة مليئة بالمعنى والقيمة، حتى في وجه التحديات والظروف الصعبة، فيكون المعنى في الحياة اليومية تحديًا، خاصة في ظل الظروف التي قد تبدو عبثية أو غير منطقية.
*سوريالي: كلمة تعود إلى المصطلح الفرنسي ( surrealisme (، الذي يعني فوق الواقع، أو ما وراء الواقع، وهذا المصطلح يستخدم لوصف حركة فنية، وأدبيات نشأت في أوائل القرن العشرين1924 على يد أندريه بروتون، تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن والأحلام والخيال بطريقة حرّة وخارجة عن القيود التقليدية للواقع والمنطق.