
الشاعرة السورية/ ريتا الحكيم
جدلية الموت والحياة: قراءة ذرائعية في قصيدة "اليومَ صارَ للموتِ بيتٌ" للشاعرة السورية ريتا الحكيم
بقلم الناقدة السورية دكتورة/ عبير خالد يحيي

اليومَ صارَ للموتِ بيتٌ
أواري فيه قمحَ الفراغِ
وأُسدلُ على نوافذِه أسماءَ الحزنِ
أدقُّ أبوابهُ بيدٍ مبتورةٌ أصابعُها
وأصرخُ في وجههِ
يبتسمُ
يقهقهُ ساخرًا من سذاجةِ يأسي
أردعهُ عن عناقٍ مُرتقَبٍ
يُقبلُ
فأُدبرُ
لا ألوي على شباكٍ
يُحكِمُ صُنعَها بسوءِ تقديري لخُطاه
يا لفضولهِ المُريبِ
يقتحمُني بحجَّةِ إعادةِ ترتيبِ حياتي
وأنا أعجنُ الفوضى
أصلِّي عليها سبعًا
وأخبزُها رقائقَ مغموسةً بضحكاتٍ مُصطَنعةٍ
على ملامحِ التَّرقبِ
تُعد النصوص الشعرية التي تعكس الصراعات النفسية الداخلية والتناقضات الوجودية من أبرز أشكال التعبير الأدبي التي تثير التأمل العميق. في مثل هذه النصوص، يقتحم الشاعر أبعاد الحياة والموت بآليات شعورية تتجاوز الفهم السطحي للألم أو الفقد. هناك شجاعة في مواجهة هذا العبث الوجودي، ورغبة في إعادة تشكيل الواقع كما يفهمه الشاعر.
نص “اليومَ صارَ للموتِ بيتٌ” يتناول هذه القضايا بتراكيب لغوية غنية، وصور بلاغية مكثفة، ويكشف عن جمالية النصوص التي تتمازج فيها الهواجس الشخصية مع التأملات الوجودية العميقة، مستعرضة علاقة الإنسان بالموت ككائن حي مداهم ومتنقل.
في هذا النص، تتخذ الشاعرة من الموت كائنًا حيًا متسلطًا، يمتلك فضولًا وقوة غريبة، ويستقر في حياة الشاعرة، ليس كحدث متأخر، بل كواقع يومي يتدخل في تفاصيل وجودها. الموت في هذا السياق ليس فقط تهديدًا خارجيًا، بل يتجسد كموجود دائم، يخترق الحياة ويعيد تشكيلها كما يشاء. يقول ريتا: “اليومَ صارَ للموتِ بيتٌ” لتعبر عن فكرة أن الموت قد أصبح جزءًا من المنزل اليومي للإنسان، يتنقل فيه كما لو كان أحد أفراد الأسرة.
تعبر ريتا عن حالة من الرفض الظاهر والمقاومة المتجددة في تعاملها مع الموت، حيث تصف محاولاتها لصد هذا الكائن المتسلل:
“أدقُّ أبوابهُ بيدٍ مبتورةٍ أصابعُها”. هذه الصورة تخلق إحساسًا بالعجز والوحدة، ولكن في نفس الوقت هناك تحدٍّ مستمر يتمثل في المقاومة المستمرة لهذا الكائن، سواء أكان الموت أم الفراغ، اللذان يغلفان الحياة.
ثم يأتي الرد الساخر للموت: “يبتسمُ، يقهقهُ ساخرًا من سذاجةِ يأسي”، وهو مشهد يعكس تأكيد الشاعرة على صعوبة أن تكون المقاومة فعّالة.
هناك مفارقة في محاولات الشاعرة لصد الموت، فكلما حاولت الابتعاد، اقترب منها أكثر. يُقبل الموت رغم محاولات الهروب، وتستمر المواجهة، دون أن تستطيع الشاعرة الهروب من قبضته: “فأُدبرُ، لا ألوي على شباكٍ”. هذه الإشارات تزداد تأكيدًا على الفشل المتكرر، وهو ما يُبرز هواجس الشاعرة الداخلية، حيث تبقى حالة العجز والقبول هي الحل الوحيد.
وفي حين أن هذا الصراع يظهر في البداية على أنه أزمة مع الموت، فإن الشاعرة تعكس لنا أيضًا حالة من التشتت الذاتي والفوضى الداخلية التي تعيشها. “وأنا أعجنُ الفوضى، أصلِّي عليها سبعًا” هي عبارة تُظهر التفاعل العميق مع حالة الفوضى الشخصية. هنا تتعامل الشاعرة مع الفوضى ليس كعدو يجب التغلب عليه، بل كجزء من حياتها اليومية، وهو ما يضيف إلى النص طابعًا من السخرية الحزينة.
وبذلك، تتفاعل الشاعرة مع الموت والفوضى بشكل مزدوج؛ فهي ترفض الموت في لحظات معينة، لكنها تضطر في لحظات أخرى إلى قبوله، بينما تعايش الفوضى بشكل مستمر دون القدرة على التغيير أو الإصلاح. “وأخبزُها رقائقَ مغموسةً بضحكاتٍ مُصطَنعةٍ” تعبير عن محاولة التكيف مع الواقع البائس، في مسعى لتلطيف مرارة الواقع بإجراءات يومية تبدو سخيفة ومصطنعة، لكنها في النهاية تبقى نوعًا من التمرد الرمزي على موت الحياة.
النص يبقى مشغولًا بتصوير العلاقة المعقدة بين الحياة والموت، بين اليأس والإصرار، وبين الفوضى والنظام. من خلال هذه الثنائية المتناقضة، تُظهِر الشاعرة صراعًا داخليًا مستمرًا، حيث الفوضى لا تجد مخرجًا، والموت لا يمكن تجنبه، ما يجعله نصًا يعكس تناقضات الحياة اليومية وحالة الفرد في مواجهة هذا الوجود العبثي.
1- البؤرة والخلفية الأخلاقية
النص يعالج ثيمة الموت كحالة وجودية متسلطة على الذات الشاعرة، حيث يتحول إلى كيان حيّ يتفاعل معها، يبتسم، يقتحم، ويعيد ترتيب الحياة. هذا التصوير يعكس صراعًا نفسيًا بين رفض الموت والخضوع له، مما يعكس بعدًا فلسفيًا وأخلاقيًا حول حتمية الفناء والتعامل معه.
2- المستوى البصري
تستخدم الشاعرة صورًا حسية قوية مثل:
بيتٌ أواري فيه قمحَ الفراغِ → مشهد بصري يجمع بين الفراغ (كناية عن العدم) والقمح (رمز للحياة).
يدٌ مبتورةٌ أصابعُها → صورة بصرية مؤلمة تجسد العجز.
شباك يُحكم صُنعَها بسوءِ تقديري لخُطاه → توظيف رمزي يعكس الوقوع في مصيدة الأقدار.
3- المستوى اللغوي
النص يتسم بلغة شعرية مكثفة ذات انزياحات دلالية، حيث يستخدم التناقضات لإبراز عمق المعاناة:
يبتسمُ.. يقهقهُ ساخرًا من سذاجةِ يأسي → المفارقة بين الضحك واليأس تعمّق الإحساس بالعبثية.
وأخبزُها رقائقَ مغموسةً بضحكاتٍ مُصطَنعةٍ → التلاعب باللغة يظهر التناقض بين السعادة المصطنعة والحزن الكامن.
4- المستوى الديناميكي
الحركة في النص متوترة، حيث تبدأ الذات الشاعرة بالمقاومة (أدقُّ أبوابهُ بيدٍ مبتورةٌ أصابعُها)، ثم تتراجع خوفًا (فأُدبرُ لا ألوي على شباكٍ)، لتنتهي بالاستسلام المشوب بالسخرية (وأخبزُها رقائقَ مغموسةً بضحكاتٍ مُصطَنعةٍ).
5- المستوى النفسي
النص يعكس اضطرابًا نفسيًا وجوديًا، حيث الموت ليس مجرد فكرة، بل قوة غامضة تتسلل إلى الحياة اليومية. كما يتضح التناقض العاطفي بين الرفض والاستسلام، والتوجس من النهاية المحتومة.
6- دراسة التجربة الإبداعية
النص يستند إلى تجربة شخصية أو تأملات ذاتية في الموت بوصفه ضيفًا ثقيلًا يُفرض على الإنسان. الأسلوب يحمل طابعًا حداثيًا مع نزعة رمزية واضحة، مما يعكس تأثر الشاعرة باتجاهات الشعر المعاصر.
قوة الصور الشعرية: النص يعتمد على صور شعرية ذات دلالات متعددة، مما يمنحه عمقًا وتأثيرًا.
الإيقاع الداخلي: رغم خلوه من الوزن التقليدي، إلا أن التكرار والجرس الموسيقي في العبارات يمنحان النص إيقاعًا خاصًا.
البعد الفلسفي: النص لا يكتفي بوصف الموت، بل يطرحه كإشكالية وجودية تتشابك مع مفاهيم الحياة واليأس والصراع الداخلي.
النص يعكس تجربة شعرية ناضجة، توظف الرمزية والتناقضات بمهارة، مما يجعله نصًا مفتوحًا للتأويلات المتعددة بين الصراع مع الموت والرغبة في إعادة تعريف الحياة رغم عبثيتها.