
جماليات اللغة العربية
بقلم الدكتورة/ صفا أحمد شريف

لغتنا العربية لغة تستحق الاحترام والتقدير، ولها واجب علينا كبير، وهي حية لا تشيخ ولا تموت كما حدث مع بعض اللغات وإن كانت ليست في المرتبة الأولى عالميا فهي عندنا الأولى لأنها لغة الكتاب المقدس، وهو كتاب محفوظ إلى يوم الدين، فبالتالي هي محفوظة معه.
خصائصها كثيرة وجماليتها أكثر، تتميز بجمال المترادفات والاشتقاق وجمال البديع، وارتباطها بالجمال والسحر ليس حديثا، فقد كانت تقام لأجلها الأسواق وتجتمع الشعراء وتقام المنافسات ليُرى أيهم أفصح، وكلنا نعرف المنافسة التي قامت بين تماضر بن عمرو السُلمية التي لقبت بالخنساء، والشاعر حسان ابن ثابت، عندما تواجدا تحت قبة النابغة الذبياني، وفازت الخنساء بسحر شعرها حينها.
جمالها متجدد دائما، وقد شهدت هذه اللغة تطورا ملحوظا من حيث التراكيب والمفردات، وأثبتت قدرتها على مواكبة المتغيرات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وذلك على مر الزمان والمكان.
فمن حيث الاشتقاق تستطيع اشتقاق عددا لا متناهيا من الكلمات من جذر واحد: كاسم الفاعل واسم المفعول، واسم الزمان والمكان، والآلة وغيرهم الكثير: كجذر الفاء والعين والام : فعل: تستطيع اشتقاق: فاعل وفعّل وانفعل، أفعل.. وغيرهم.عدد لا متناه من جذر واحد وهذا دليل غنى واتساع.
أما من حيث الترادف، هذه الميزة الجمالية التي توحي باختلاف اللفظ وائتلاف المعنى، فهي غنية جدا، كلمات تعطي نفس المعنى لكن بشكل أدق أكثر، على اختلاف بسيط في الدرجات وذلك ليصل المعنى إلى مبتغاه بشكل أبلغ.
فمثلا مصطلح الحزن ترادفه: الجزع، الأسى، الترح، الشجن، اللهفة، الحسرة، الجوى، الكآبة..وغيرها، كلها مصطلحات تدل على الحزن لكن لكل لفظ مستوى معين ، ثراء دلالي لا حصر له
وقد تطلق عدة ألفاظ لمعنى واحد، كلفظ الأسد وذلك حسب صفاته: وقد أحصى له بعض العلماء خمسين اسما وصفة كالليث والفتاك، والغضنفر وأسامة وغيرها .
ومترادفات السيف، الآلة الوحيدة التي تحمي الإنسان في ذلك الوقت في الحروب والدفاع عن النفس، كذلك أحصى بعض العلماء لها خمسين اسما: كالحسام، والبتار والمهند، والضارم وغيرها وغيرها .
كما لا ننسى أهمية السياق في اللغة العربية، فاللفظ الواحد يكتسب معناه من خلال السياق الذي قيل فيه: فلفظ ” الجذر” يختلف دلالته من سياق إلى آخر: فهو عند عالم النبات جزء من جذع الشجرة، وهو عند عالم اللغة العربية الجذر الثلاثي للفعل، وغيرها من السياقات المختلفة.
وكذلك الجملة يختلف معناها باختلاف سياقها، لكل مقام مقال، فجملة ” يا جميلتي” ربما هي لرجل يتغزل في فرسه، أو رجل يتغزل في زوجته، وغيرها.. السياق من يحدد لمن قيلت.
ومن مرونة وجمال لغتنا، قدرتها على التطور لمواكبة عصرها، فمثلا نجد مصطلحا قد اندثر، في حين مصطلح آخر اكتسب دلالة أخرى ألبسته حلة جديدة، فلمع وانتشر، وهذا كله يعود لمستخدمي اللغة واحتياجات عصرها:
• كمصطلح الأكثر شهرة في عصرنا وهو القهوة، الشراب الذي يعشقه الجميع ساخنا وباردا ومثلجا ، وقد أطلق هذا المصطلح على النبيذ في عصر الأمويين والعباسيين، اشتقت كلمة القهوة كما جاء في لسان العرب من الفعل (قها) ” أقهى عن الطعام واقتهى: ارتدت شهوته عنه من غير مرض مثل أقهم، يقال للرجل القليل الطُّعم أي الخمر” فهذا إشارة إلى سمعة الشراب الذي يسد الشهية، فهي تقهي شاربها عن الطعام أي تذهب بجوعه كما قال البعض، فلقد تغيرت دلالاتها من السلبية إلى الإجابية عبرالعصور، فانتقل فعلها من السكر إلى التنشيط، من الحرام إلى الحلال، من البن وليس من العنب.
• ومصطلح ( سفرة) كان يطلق على ما يحمله المسافر من طعام، تطورت دلالته وأصبح يطلق على كل طعام يوضع على الطاولة في المنزل .
• ولفظ أب كان أكثر اتساعا، كان يطلق على الأب والجد والعم، أصبح دقيقا يطلق فقط على الأب .
وهناك مصطلحات كانت تقال للضدين معا، ولكن استعمال الناس لها جعلها تطلق على جهة واحدة دون الأخرى: كمصطلح “المأتم”: الذي هو اجتماع للفرح والحزن معا، تطور ليلتزم جهة واحدة دون الأخرى، وبقي ملازما للحزن فقط.
ومصطلح “الطرب”: الذي هو حقه الحركة تصيب الرجل والمرأة عند الفرح والحزن، اقتصر على الفرح فقط.
ولفظ “الأبيض” كان للفرح والحزن، أصبح للفرح فقط والناس تلبس في حزنها الأسود إلا الميت.
كل مصطلحات العربية حيّة، وتتطور وتلبس لباسا جديدا وتخلع لباسا، فضلا عن حركاتها التي تغير المعنى كلياااا: كقوله تعالى في الآية الكريمة: ” أن الله بريء من المشركينَ ورسولُه” والمعنى أن الله بريء من المشركين ورسوله بريء منهم أيضا، إذا وضعت الفتحة على رسوله ، يصبح المعنى أن الله برىء من المشركين ومن الرسول والعياذ بالله. حركة واحدة غيرت المعنى.
لغتنا بقوتها تستطيع تجاوز كل الأزمات ومواكبتها، ففي عصرنا الحالي ظهرت مصطلحات خاصة بالأزمة الفلسطينية والغزاوية : “ما تبكيش يا زلمة” دليل على إعطاء قوة إيمانية كبرى وتشجيع.
“عصا السنوار” التي أصبحت دليلا على الشجاعة والقتال حتى الرمق الأخير،
” روح الروح” دليل على الحب والحنية الأبوية، هذه المصطلحات ترجمت إلى عدة لغات وأصبحت رمزا
وفي الأزمة السورية: أصبح القول لشخص ما أنت أسد، إهانة ودليل على الظلم، مصطلح ( كوع) انتشر على وسائل التواصل الجتماعي وقد اكتسب هذا المصطلح دلالة تغيير الآراء السياسية التي كان قد تبناها
وغيرها وغيرها من المصطلحات التي تواكبنا وتعكس حياتَنا الاجتماعية وحالتَنا النفسية، أختم وأقول أن هذه اللغة الساحرة هي مرآة أحوال الأمة، وواجبنا تُجاهها كبير ، علينا الاعتزاز بها والدفاع عنها، والدعوة للكلام بها دوما، فبعلوها نعلو وبتقهقرها نتقهقر مثلها.