
خطاب القسم وخصائصه في القرآن الكريم
بقلم الدكتورة /عبير خالد يحيي

يأتي خطاب القسم في القرآن الكريم ليؤكد المعاني العظيمة، ويشد انتباه المتلقي إلى الحقائق الكبرى التي لا تحتمل الشك. إذ يقسم الله تعالى بمخلوقاته، أو بأحداث كونية عظيمة، أو بأزمنة مباركة، ليبرز دلالات ذات مغزى عميق، تربط بين الكون والإنسان والمصير الأخروي. وتتنوع خصائص القسم في القرآن، حيث يحمل التوكيد، والتشويق، والتقرير، والتعظيم، والتوجيه نحو العبرة. وفي هذه الدراسة، سنتناول خطاب القسم وخصائصه في مجموعة من السور، مع أمثلة من آياتها.
1. خطاب القسم في سورة الانشقاق
خصائص القسم: يأتي القسم هنا مرتبطًا بالمشاهد الأخروية التي تصوّر تحول العالم يوم القيامة.
المثال:
“فَلَا أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ، وَٱلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ” (الانشقاق: 16-19)
تحليل:
يقسم الله بالشفق والليل والقمر، وهي ظواهر كونية مهيبة، مما يربط بين التحولات الكونية والتحولات التي سيواجهها الإنسان يوم القيامة.
الغرض من القسم: تأكيد سنة التغير والانتقال من حال إلى حال، سواء في الدنيا أو الآخرة.
2. خطاب القسم في سورة البروج
خصائص القسم: يرتبط القسم هنا بعظمة السماء وأحداث تاريخية عظيمة، مثل حادثة أصحاب الأخدود.
المثال:
“وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ، وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلْأُخْدُودِ” (البروج: 1-4)
تحليل:
القسم بالسماء ذات الأبراج يشير إلى النظام الكوني الدقيق الذي يشهد على قدرة الله.
القسم باليوم الموعود (يوم القيامة) يرسّخ حتمية الجزاء.
القسم بشاهد ومشهود يعكس أهمية الشهادة على أعمال الناس في الدنيا والآخرة.
3. خطاب القسم في سورة الفجر
خصائص القسم: يرتبط بزمن الفجر وما بعده، ويشير إلى تقلبات التاريخ ومصارع الأمم.
المثال:
“وَٱلْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ، وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِى ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ” (الفجر: 1-5)
تحليل:
الفجر يرمز إلى بداية جديدة، وهو وقت مبارك ذو دلالات دينية.
الليالي العشر (أرجح الأقوال: العشر الأوائل من ذي الحجة) تحمل قدسية خاصة.
القسم بالليل والسير يعكس صورة الزمن المتحرك والمراحل المتغيرة.
4. خطاب القسم في سورة الطارق
خصائص القسم: يرتبط بالقوى الكونية العظيمة كالنجم والسماء.
المثال:
“وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ، وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ، ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ” (الطارق: 1-3)
تحليل:
الطارق هو نجم مضيء يخترق الظلام، وهو مشهد يوحي بالقوة والعظمة.
القسم يأتي تمهيدًا للحديث عن حفظ الله للإنسان وعنايته به.
5. خطاب القسم في سورة البلد
خصائص القسم: يرتبط بمكة، التي تحمل رمزية دينية وإنسانية عميقة.
المثال:
“لَآ أُقْسِمُ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ، وَأَنتَ حِلٌّۢ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ” (البلد: 1-2)
تحليل:
مكة المكرمة هي محل القسم، مما يعكس عظمتها في الرسالة الإلهية.
القسم يؤكد مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان المقدس.
6. خطاب القسم في سورة الشمس
خصائص القسم: يتمحور حول عناصر الطبيعة وأثرها في حياة الإنسان.
المثال:
“وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا، وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا” (الشمس: 1-2)
تحليل:
الشمس والقمر يمثلان ثنائية الضوء والظلام، مما يعكس دورة الحياة والتقلبات الكونية.
القسم يعقبه تأكيد على فلاح من زكّى نفسه وخيبة من دساها.
7. خطاب القسم في سورة الليل
خصائص القسم: يتمحور حول تعاقب الليل والنهار وتأثيره في حياة البشر.
المثال:
“وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ، وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ” (الليل: 1-2)
تحليل:
القسم هنا يعكس ثنائية الستر والوضوح، الخفاء والظهور.
يأتي كمدخل للحديث عن اختلاف أعمال الناس ومساعيهم في الحياة.
8. خطاب القسم في سورة الضحى
خصائص القسم: يرتبط بأثر الزمن على النفس البشرية.
المثال:
“وَٱلضُّحَىٰ، وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ” (الضحى: 1-2)
تحليل:
الضحى رمز للأمل والنشاط، والليل الساكن رمز للسكون والطمأنينة.
يأتي القسم ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لم يهجره.
9. خطاب القسم في سورة التين
خصائص القسم: يرتبط بالأماكن المباركة.
المثال:
“وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ” (التين: 1-3)
تحليل:
التين والزيتون يرمزان للخيرات والبركة.
طور سيناء ومكة يرتبطان بالرسالات السماوية.
10. خطاب القسم في سورة العاديات
خصائص القسم: يتمحور حول القوة والحركة.
المثال:
“وَٱلْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا، فَٱلْمُورِيَٰتِ قَدْحًا” (العاديات: 1-2)
تحليل:
القسم بالخيل في المعارك يعكس القوة والتضحية.
11. خطاب القسم في سورة والعصر
“وَٱلْعَصْرِ، إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ” (العصر: 1-2)
تحليل:
القسم بالزمن يلفت النظر إلى قيمة العمر ومسؤولية الإنسان تجاهه.
خاتمة
خطاب القسم في القرآن ليس مجرد أداة توكيد، بل هو لوحة فنية، ومفتاح للعبرة، ومدخل لتأمل عظمة الله وآياته في الكون والتاريخ.
إن القسم في القرآن الكريم ليس مجرد تأكيد للمعنى، بل هو أسلوب بلاغي عميق يحمل دلالات فكرية وروحية، ويرتبط بمقاصد كبرى تدعو الإنسان إلى التأمل والتدبر. عندما يقسم الله بظواهر كونية مثل الشمس، والقمر، والليل، والفجر، فإن ذلك يشير إلى عدة معانٍ جوهرية، منها:
1- التنبيه إلى عظمة الخلق ودقة النظام الكوني
الله تعالى يقسم بعناصر كونية كالشمس، والقمر، والسماء، ليُذكّر الإنسان بدقة هذا النظام المخلوق بقدرة إلهية مطلقة. يقول تعالى:
“وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا، وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا” (الشمس: 1-2)
هذا الترتيب الدقيق بين الشمس والقمر يعكس حكمة الله في ضبط الكون، وهو دعوة للتأمل في آياته.
2- ربط المشهد الكوني بالحياة الإنسانية والمصير الأخروي
الله تعالى يقسم بأحداث كونية مرتبطة بتجربة الإنسان في الحياة، كما في قوله:
“وَٱلْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ” (الفجر: 1-2)
الفجر هنا ليس مجرد وقت زمني، بل هو رمز للبدايات الجديدة بعد الظلمة، وهو يرمز أيضًا إلى القيامة، حيث ينتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة.
3- التأكيد على حقائق إيمانية عظيمة
القسم يأتي ليؤكد قضايا محورية، مثل الجزاء والحساب، كما في قوله:
“وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ، وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ، ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ” (الطارق: 1-3)
النجم الطارق هنا ليس مجرد ظاهرة كونية، بل هو دليل على قدرة الله، وتمهيد للحديث عن أن الله يحفظ الإنسان ويحصي أعماله.
4- استخدام القسم لجذب الانتباه إلى معانٍ روحية وأخلاقية
القسم يأتي أحيانًا ليُذكّر الإنسان بمسؤوليته الأخلاقية، كما في قوله:
“وَٱلضُّحَىٰ، وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ” (الضحى: 1-2)
هذا القسم جاء ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكد أن الله لم يهجره، وهو يحمل بعدًا نفسيًا وروحيًا.
5- القسم بالمقدسات والأماكن المباركة
الله تعالى يقسم ببعض الأماكن المقدسة مثل مكة، ليؤكد مكانتها، كما في قوله:
“لَآ أُقْسِمُ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ، وَأَنتَ حِلٌّۢ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ” (البلد: 1-2)
وهذا القسم يرسّخ حرمة مكة ومكانتها في الإسلام.
إذن، القسم في القرآن ليس مجرد أسلوب توكيد، بل هو نافذة للتأمل والتفكر، ومفتاحٌ لفهم سنن الله في الكون والإنسان والمصير.