أغنية حب لأبي
بقلم الأديبة المصرية الأستاذة/ هالة البدري – رئيس نادي القلم الدولي (فرع مصر) والحائزة على جائزة الدولة التقديرية
15/9/2024
مثل نهار جديد طازج تأتي ولادة موقع يدعم انتاج المرأة والابداع تسعدني وتبشرني بمستقبل أفضل يدرك فيه البشر قيمة الحياة الثمينة التي وهبها الله لهم والتي لا تتحقق إلا حين تكتمل انسانيتهم ويستطيع كل منهم التعبير عن ذاته؛ أفكاره ومشاعره واحتياجاته بكل حرية وثقة. أبارك لنا جميعا بإطلاق منصة مبدعات عربيات وأخص القائمين على الموقع الدكتورة هيفاء إبراهيم فقيه و الأستاذة غادة جاد و العاملين من وراء الستار ليخرج بهذه القيمة وأهديكم من تجربتي شهادة كنت قد كتبتها منذ سنوات طويلة لمؤتمر المرأة والابداع في القاهرة وتحدثت فيها عن أبي الذي نبهني لحب الحياة والشغف بها ودفعني لأكون ذاتي من ناحية ولأنتبه للأخرين من ناحية أخرى، وعلمني معنى الجمال وله أهدي هذه الكتابة:
وُلدت بعد ثورة يوليو بعامين، في لحظة تاريخية ثورية تدفع إلى التغيير والتطور، وإذا كانت هذه الفترة قد شهدت تحولات جذرية وطرحت للنقاش وضع المرأة في المجتمع وأنتجت تنوعاً هائلا فيما حصلت عليه كل امرأة من جيلي بالفعل حسب وعي أسرتها ونظرتها للمطروح وأيضا إمكانيات تفاعلها مع هذا الطرح، فقد حظيت بأسرة مثقفة يؤمن فيها الرجل بإنسانية المرأة ودورها في المجتمع وعشت طوال حياتي أسمع من أبي أن المولود الأول للأسرة بنت هو رزق للأسرة، كان أبي أكثر إيمانا بدوري في المجتمع من أمي، والسبب ببساطة أن تعليمه ووعيه وتحضره فاقها بكثير، إذ كانت تحمل أعباء تراثية تاريخية من الأسرة الريفية التي نشأت وتربت فيها وهو ما جعلني رغم تمتعي بحرية شديدة عن أقراني أشهد منذ الميلاد في كل موقف من مواقف حياتي الصراع بين الحرية التي يطرحها والتزمت الذي تطرحه، ومع نمو الوعي اكتشفت الفارق الهائل بن الأسرتين اللتين ينتمي إليهما كل من أبي وأُمي، أسرة واعية متحررة مرنة التفكير والسلوك، وأسرة شديدة المحافظة غارقة في التقليدية تتطور ببطء وتفاخر بتزمتها الذي يصل إلى إعاقة الحياة ذاتها.
من حسن حظي أن انتصر أبي في تربيتي لمبدأ الحرية، إذ وضع قواعد في التنشئة تؤدي إلى حتمية التغيير مهما وضعت أُمي العراقيل أمام التفاصيل واعتمد في هذا على عاملين، الأول إتاحة الفرصة لممارسة رياضة يومية والفرصة للتعامل المباشر مع عناصر الثقافة المتنوعة. التحقت بعد عدة تجارب لرياضات مختلفة بفريق سباحة ووقف يشجعني حتى حصلت على بطولة الجمهورية وبعض البطولات الدولية وقضيت كل طفولتي وصباي عضوا في فريق رياضي كبير، وتعلمت منه درس العمر في الديمقراطية حين شُغلت بالعمل الصحفي أثناء دراستي الجامعية وتعارض ذلك مع تدريبي الشاق الذي يصل إلى ست ساعات يوميا فقررت الاعتزال ولم أكن قد أكملت الثامنة عشرة من عمري فقبل هذا رغم اقتناعه واكتفى بأن طالبني بمراجعة قراري لأن مستقبلي الرياضي مفتوح الآن لحصد ثمار تعب السنوات الطويلة.
أدرك أبي ولعي بالقراءة منذ طفولتي المبكرة ففتح لي مكتبته التي تعرفت من خلالها على الأدب والعلم والفلسفة والدين والتاريخ وحفزني على الاشتراك في مكتبة المدرسة وناقشني في كل كتاب قرأته، وبسبب تشجيعه حصلت على جائزة أعلى نسبة استعارة في المراحل الدراسية الثلاث الابتدائية والإعدادية والثانوية رغم أنني كنت في الصف السادس الابتدائي، قدم لي العلماء والفنانين والأدباء وعرّفني الفروق بين الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية والعربية وموسيقى الجاز والبوب ووضع نظاما لمشاهدة أسبوعية للسينما وحضور حفلات الموسيقى والمسرح وحرص على طرح النقاش في كل قضايا المجتمع، وأيا ما أواجه من مشكلات فإذا تعارضت الآراء بيننا شرح كل منا أسبابه فإذا اختلفنا تركني أجرب ثم أعود إليه بنتيجة تجربتي موضحة الخطأ والصواب، علمني الاعتراف بالأخطاء ومواجهتها من أجل الوصول لحل بدلا من تركها تتفاقم.
أدركت مأزق أمي الحقيقي وشعورها العام بالغربة حين هجمت على مصر رياح التغيير وتبدل المناخ الثوري، وحاولت قوى رجعية النفاذ إلى أفكار المجتمع في عقائده الأساسية ووجهت شراستها ناحية المرأة وأرادت العودة بها إلى البيت وألبستها الحجاب ومنعت تعليمها في بعض الأحيان وساعدت الظروف الاقتصادية على تمكين هذا التيار من السيطرة على أفكار الناس وسلوكهم إذ واجهت أنا داخل عائلة أُمي التي أصبحت بعد ذلك عائلة زوجي أيضا أسئلة كبرى في ديني بسبب رفضي ارتداء الحجاب وخسرت إحدى قريباتي بعد أن جاءتني ثائرة ذات يوم قائلة إنني عقبة في سبيل تربية بناتها، ولأنهن لا يستمعن لها أو لأبيهن ويتأثرن بأفكاري عن العمل ويرفضن الزواج قبل إكمال تعليمهن ويرفضن ارتداء الحجاب لأنك لا ترتدينه.. ورغم أني لم أحرض أحدا على رفض الزواج أو ارتداء الحجاب فقد كنت في ذاتي النموذج المزعج الذي يعلن ببساطة فشل ما يؤمنون به، هنا أدركت مأزق أمي الذي عاشته بأصولها المتزمتة وسط مجتمعها الذي يدفعها للتمسك بأفكار لا تناسب العصر وأبي الذي يطالبها بالحياة العصرية “لم تتزوج ابنة خالتي لأنه لم يتقدم لها من بين الكثيرين الذين تقدموا شاب يماثل الأصول الطبقية لها” وعرفت كم كانت أُمي شجاعة حين واجهت ذلك بل إنها لم تعد تفاجئني الآن حين تدخل في معارك حقيقية مع إخوتها لكي تنتصر لتعليم البنات وحريتهن في اختيار شريك حياتهن وابتسم حين أتذكر المعركة التي دخلتها معي في ذلك.
قدمت لكم هذه المفارقة بين نموذج أمي وأبي لكي أقول إن أبي بأفكاره التقدمية لم يسهم فحسب في تنشئتي وتكويني على التعامل مع الحياة بحرية، بل لأنني اعتبرته نموذجا للرجال صنع داخلي صورة رائعة للرجل وهو ما جعلني طوال الحياة إذا ما واجهت نموذجا مغايرا أو سلوكا فظا غير متحضر من رجل استطعت عبوره والتعامل معه بتماسك لم يعط فرصة لأي رجل بدائي أن يهز صورة الرجال أمامي، بل يجعلني أنسب تصرفاته إلى الوعي والإدراك والثقافة والتربية وليس إلى الجنس ولم أدخل في صراع طوال حياتي نسبت فيه الاضطهاد إلى كوني امرأة.
أعترف أنني لا أكتمل بدون الرجل، فقد كنت محاطة بالرجال بالميلاد، فلم أحظ بأخت، بل بأخين، ولم أحظ بابن، بل بولدين، وأذكر حين نقل أبي للعمل قاضيا في ليبيا في منتصف الستينات وعلم أن المستوى العلمي لمدرسة البنين أعلى من مدرسة البنات ألحقني وأنا في السادسة من عمري بمدرسة البنين وكنت الفتاة الوحيدة في المدرسة وقد كسر هذا حاجز التعرف واللعب مع الصبيان، واكتشفت طوال حياتي أنني أستسهل التعامل مع الرجل عن النساء وقد أثبتت الظروف ذلك حين اخترت مهنة الصحافة والكتابة طريقا لحياتي، فكم امرأة وسط المثقفات بعددهن القليل تميل إلى ما أميل إليه على المستوى الإنساني في حين أن عدد المثقفين يسمح بأن أجد بينهم الأقرب ولهذا فإن أقرب أصدقائي هم من الرجال.
أمنت أن وضع المرأة الاجتماعي أو السياسي لن يتغير بحلول جزئية، بل بحلول تؤدي إلى تطور المجتمع كله وأن الصراع لا يجب أن يكون بين المرأة والرجل بل باتحادهما معا تجاه القوى التي تقهرهما معا.
وبعد.. هل يمكن أن أكون حرة في مجتمع ليس حراً؟
لقد أدركت منذ وقت مبكر أن الحياة ذاتها صراع بين الحرية والقيد صراع يصيب أحيانا ويخيب أخرى دون أن يهتز إيماني بأن الحرية تأتي من الإصرار عليها وأن المقهور مسئول مسئولية مباشرة عن قهره وإن كنت أعدت التفكير مؤخرًا عن مدى مسئولية المقهور في ظل الظروف المركبة شديدة التعقيد التي يمر بها العالم الآن.
ولأن الكاتب متمرد بطبعه فأنا أرفض كل ما يقف أمام حرية الكتابة أولاً: بالاشتباك والمساءلة للتابوهات الثلاثة: السياسة، الجنس، الدين. وثانيًا: بالتحرر من كل ما يخص البنية الجاهزة للنص الأدبي وقد ساعدني فن الرواية باعتباره فنا غير ذي شكل ثابت، فن متحرك يتطور ويطرح حتى الآن أشكالا لا نهائية على الدخول في مغامرة الكتابة دون تصور مسبق للشكل، بل أترك لموضوعي فرض جمالياته الخاصة، ولهذا لم تنته رواية عندي كما بدأت على الإطلاق، والصراع هنا لا يكون بين العمل وبين رغبتي في شكل محدد ولكن الصراع مع الغير الذين يتعاملون مع الإنتاج الفني بقياسات إما سابقة ويطالبوننا بتكرار شكل انتهى دوره دون النظر لاختلافنا عما سبقونا في أوضاعنا الفكرية والثقافية السياسية وغيرها يعاملون النص وفقا لقوالب جامدة يخضعون النص لها بغير حق.. أو بقوالب مستعارة من الغير كتطبيق نظريات غربية دون النظر لطبيعة الاختلاف.
هنا دوري هو دور المشاهد المستوعب لتجارب الآخرين لا أجعل هذا الصراع عبئا على كتابتي أنا أكتب ما يفرضه احتياج النص بغض النظر عن شكله.
وهنا يثور السؤال: أنا كشخص حر من حقي الحوار، كيف يكون الحوار في وجود قمع سياسي وقهر جنسي وتسلط ديني ولغة ذكورية أيضا، وكيف أتعامل مع كتاباتي بحرية دون أن يتسرب هذا الشعور بالقمع ليجد شخصا كامل المواصفات شريرا يجلس فوق أوراقي ناظرا إلىّ بعينين ناريتين ممسكا عصا.. كيف لا تتسرب مشاكل رؤوفة من اليمن ونصر أبو زيد في مصر وليلى العثمان وعلياء شعيب في الكويت ومارسيل خليفة في بيروت إلى هذا المارد الداخلي المسمى الرقيب؟
أحيانا أقول إنني أقهره، وأحيانا يلح ويلح وقد تعرض لي مرارا، بل عاش معي وأنا أكتب روايتي “ليس الآن” في منطقة شديدة الحساسية عن مشاعر جندي حضّر طويلا لحرب أكتوبر ثم شعر بالهزيمة الداخلية فهل كانت أثناء الحرب أم بعدها ؟
في أبريل عام 1992 في لحظة خاصة قررت فيها ألا أقبل أنصاف الحلول أبدا تصالحت مع ذاتي وحسمت الصراع الدائر وقررت أن أكتب بحرية مطلقة لا يوجد فيها كلمة “إلا” وأن أشتبك مع التابوهات الثلاث وأن أطرحها كسؤال في ديمومة تقتضي إعادته مرات، من حقي الاختلاف مع الغير، من حقي تصورات أخرى للحياة والفن، من حقي أن أكون أنا لا الصورة التي يريدها الآخر، ولهذا ظهر الجنس “وكذلك السياسة” في روايتي “منتهى” و”ليس الآن” بشكل أكثر قوة ووضوحا وأذكر أن أحد النقاد كتب عن مجموعة قصصية سابقة لي أنها كتابة تبحث عن الفضيلة وأنني أحسست بأن الموضوع لم يكن في حاجة إلى جنس.
الان بعد مرور كل هذه السنوات على كتابتي لهذه الأغنية لأبي وأنا أواجه كل تحدياتي وأقبل بالثمن المدفوع مقدمًا أعرف أن الفن هو صنو الحرية وأن جوهره هو التجريب والابتكار وأن هذا لا يتم بدون قوة داخلية صنعها أبي وأكملنا بلورتها معًا أمي وأنا حين أدركنا أننا يمكن أن نتطور ونحن نحمل تراثنا بكل ثقله الإيجابي والسلبي ونكافح لنخلصه من الأوهام والمعوقات لننطلق إلى السماء بكل انسانيتنا وطاقاتنا الرائعة.
Pingback: Elementor #3556 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: تفاهاتي – منصة مبدعات عربيات
Pingback: منصة مبدعات عربيات
Pingback: Elementor #3728 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: Elementor #3744 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: Elementor #3785 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: Elementor #3767 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: Elementor #3812 – منصة مبدعات عربيات
Pingback: Create a Website
Pingback: Elementor #3909 – Create a Website