رحم صخري

WhatsApp Image 2024 12 20 at 19.58.53 a4eff95336

رحم صخري من المجموعة القصصية (رحم صخري)

بقلم الكاتبة/ يسرا النوبي

 

WhatsApp Image 2024 09 20 at 19.59.00 7b7c4f12


حانت لحظة ميلاده ليخرج من ظلمته إلى النور ليلقي فرصته في الحياة كمن يملكون نفس عمرِه، أيقظ جفونه الكسول وفتح عينيه وكأنه لم يفتحها….! ما زالت الظلمة قابعة في الأرجاء, والظلام يحوم حوله في كل مكان، أطبق جفونه وفتحها مرة أخرى ولكن لم يرَ سوى الظلام، كرر فعلته ثم كررها ثم كررها فلم يجد سوى السواد الذي يحيط به وهو ما زال في وضع الجنين.

تساءل في حيرة: “ألم أولد بعد أم أنني جنين أعمى لا يرى سوى الظلمة؟”.

تحسس الجدران من حوله فلم يجدها مطاطية لينة بل كانت قاسية جافة كالصخور، استدار وهو يتحسس كامل الجدران لعل ظنه يخيب ولكنه وجدها بنفس الملمس.

_ربما هذا أحد أحلامي السيئة، بلى إنه كابوس أحمق يؤرق راحتي ولحظات سعادتي بالحياة.

محاولاته لم تنتهِ وهو يبحث عن مخرج…. ربما شعاع من الضوء يشق الظلمة الدامسة أو شق لين ينزلق منه للعالم الجديد ولكنها جميعًا باءت بالفشل الشنيع.


_ ترى هل خُلقت في رحم صخري؟! ولم أولد كالباقين، هذا ليس من العدل.

ثم ركل بقدمه الجدار بنفاد صبر وهو يستطرد متسائلًا:

_كيف سأخرج من هنا الآن إذا كان هذا حقيقيًّا وليس بكابوس؟

في تلك الأثناء جاء صوت من الخارج يحدثه:

_” مبروك أنت صاحب الحظ السيئ ممن يسكنون الرحم الصخري، وأمامك خياران إما أن تشق الصخور بيدك وتخرج للحياة أو أن تستسلم للموت بسهولة، ولا تقلق يا صديقي لن تشعر بالعار إذا اتجهت للخيار الثاني فمعظم الحالات التي تشبهك اختارته وندرة هم من خرجوا للنور.

الخيار بين يديك الآن ونحن في انتظار قرارك، واعلم أن ليست كل الحواجز يمكن التغلب عليها إنما هناك من تلقى حتفك على أيديهم يا عزيزي، أنت لم تعد جنينًا كما كنت إنما أنت الآن أصبحت يافعًا عاقلًا كاملًا بإمكانك أن تجد دربًا للحياة بنفسك دون المساعدة”.


سأله الجنين بذهول:

_كيف لي أن أجد دربي وأنا سجين رحم صخري ومتكور كالأجنة، وتحيطني الظلمة من كل مكان أي درب هذا؟!…. إنما هي حتمية الموت؟

أجابه:

_ ابحث بذاتك عنها، آه هناك خبر آخر مهم, يتوجب علي أن أُعلنه لك، من الآن سينقطع عنك الحبل السري ولن تجد الغذاء لحين خروجك، فمن الأحرى لك أن تحاول استغلال طاقتك قدر الإمكان بشكل سليم ولا تهدرها، والآن نتمنى لك التوفيق وسأودعك على أملٍ للقاءٍ قريب.

ابتسم الجنين بتهكم وهو يقول: وكأنك تهتم لسلامتي!

الآن باتت الخيارات محدودة إما النجاة أو الموت، احتمالات الخروج ضئيلة تكاد تكون منعدمة واحتمالات هلاكه متوقعة بنسبة مئوية كبيرة لا يمكن نكرانها أو تغافلها.

فكر في الظلمة من حوله يبحث عن سبل للخلاص، كيف سيوازن بين طاقته بعد أن قُطِع عنه مصدر الطاقة الوحيد وبين نجاح محاولاته؟ 

الوقت يسير كالضباب أمام ناظره… الانتظار كذرات الهواء تتسلل بين الضباب وتبدده لا جدوى منه سوى استنزاف آمال النجاة، لم يعد هناك سوى قرار المواجهة.

كور قبضته في المساحة الضيقة ولكم الجدار فلم يحرك ساكنًا، عاود الكرة مرة أخرى ولم تختلف عن سابقتها فتبعهما بالثالثة في إصرار فلم تنجح هي الأخرى، الجدار صخري قوي لا يهتز بلكماته، ولكنه لن يستسلم بتلك السهولة، ركل بقدمه مرة تلو الأخرى إلى أن وصل للعاشرة ولكن لم تُحْدِث ركلاته أي جديد سوى بعض القطع الصغيرة المهشمة من طبقات الصخر التي تشاركه الرحم الآن.

دب التعب في أوصاله وهو يلح عليه بأخذ قسطٍ من الراحة حتى لا يهدر طاقته المحدودة، فلبى إلحاحه وأسند رأسه الثقيل إلى الجدران مستسلمًا للنوم لعله بعدها يستعيد نشاطه.

بعدها بساعتين استيقظ من غفوته وهو يفتح عينيه ليجد نفس الظلمة، شعر ببعض الجوع، تجاهله، ثم استجمع تركيزه مرة أخرى صوب الجدار الصخري ثم بدأ مرة أخرى.

ظل يلكمه بقبضته إلى أن أدميت يده وانتشرت بها الجروح والتشققات وبدأت شعلة طاقته في الخفوت، أراح ذراعه المُتألمة واستبدل بها قدمه وراح يركل ويركل. 

لماذا الجدران تبدو خراسانية لا تتأثر كالجبال الشامخة في مهب الرياح؟

لم يكف عن الركل إلى أن كسر ساقه في إحدى الركلات، سقط يتلوى وهو يصرخ طلبًا للمساعدة ولكن لا أحد يستجيب، طاقته تنحدر، أراح ساقه وحاول احتواء آلالامه بعقل مستميت خلف النجاح، قطرات العرق تنشع على جبينه ومعها يولد شعور الظمأ، يرغب في القليل من الماء ولكن لا يوجد… فازدرد ريقه مسكنًا لظمئه ثم عاد يلكم الجدار بقبضته الأخرى مرة تلو الأخرى إلى أن سقطت قطعة صخرية كبيرة ولكن حجمها كان أقل من أن يحدث فارقًا في سمك الحائط، التقطها وأكمل بها طرقاته على الحائط، تشقق حلقه كالأرض البور وغلبه لهب الظمأ، ألم ساقه لا يُحتمل مقارنة بألم يده المدماة.

فترة راحة أخرى نقصت من بطارية طاقته بقدر تخطى ثلثيها، راح يطرق مرة أخرى ولكن تلك المرة كانت طرقاته ولكماته بطيئة مجهدة، جسده بدأ في التراخي، الجوع والعطش ينهشان جوفه.

فاستوقفه عقله فجأة وسأله:

_هل النجاة تستحق كل هذا العناء؟ ألا يحق لك أن تُكْرم جسدك وتريحه من كل هذا الألم؟، قدم مكسورة وأخرى أصاب كاحلها التواء ويداك تنزفان الدماء، أصابعك تورمت وبطارية طاقتك صبغت بالحمرة وبدأت تئن وتئن.

ركل الجدران بقدمه المصابة بالتواء في يأس شديد…. صرخ بعدها من شدة الألم، فاستطرد العقل حديثه:

_ لقد أخبرك الصوت الخارجي أن احتمالات نجاتك ضئيلة ولا عار في استسلامك للموت، استسلم يا صديقي…. فلا بأس بهذا لتريح جسدك من آلالامه… فطاقتك لم تعد تتعدى العشرة في المائة، استسلم واستقبل نهايتك بشرف محاولاتك المستميتة.

استمع إليه في طوع ورضوخ مستسلمًا بعد أن بدأت شعلة طاقته تخبو رويدًا رويدًا… ثقلت جفونه من التعب فأغلقهما بحثًا عن الراحة وغفا في استسلام، حينها استمع لصوت دقات قلبه وهي تهدأ ثم بدأ العد التنازلي لمقياس طاقته، ونهايته شارفت على الوصول 

9

8

7

6

ركل بقدمه ركلة ترجٍّ وتوسل 

5

4

لكمة واهنة عاجزة وعاد للاستسلام بتراخٍ…. حينها بدأ يسمع صوت تصدع الجدران الصخرية وهي تتشقق وتخترق فواصلها أشعة الضوء فلمح أحدهم يزعج ظلمته، لم يصدق رؤية عينه حتما إنه حلمه بالخلاص الذي يزوره للمرة الأخيرة… وهو الآن يواجه موته ككثير ممن سبقوه بنفس الحظ.

2

ازدادت شقوق الجدران وبدأت في الانهيار لتحل محلها أحزمة سميكة من الضوء، وقبل أن يلفظ نفسه الأخير كان الرحم الصخري قد تهاوى بأكمله ليجد نفسه وسط ساحة واسعة تعلوها سماء وأصوات…. والهتافات والتصفيق يعلو من حوله والصوت الخارجي يعود مرة أخرى ويهلل في المذياع قائلا بحماس:

_فلنُحيِّ الآن ناجينا المقاتل ونرحب به في أرض الخلاص.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *