« رصاص وقيصر» للكاتبة رشا النقري بين المقالة الشهادية والسيرة المقتطعة: دراسة ذرائعية في مستويات الحكاية الذاتية والاجتماعية

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 18.01.50 afcee625

« رصاص وقيصر» للكاتبة رشا النقري بين المقالة الشهادية والسيرة المقتطعة: دراسة ذرائعية في مستويات الحكاية الذاتية والاجتماعية

بقلم الناقدة الدكتورة / عبير خالد يحيي

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 18.05.35 810705ee

 

     «رصاص وقيصر» مجموعة مقالية/شهادية تقترب من المذكرات الأدبية، تحمل مزيجًا من السرد الذاتي والتأملات الوجودية والاجتماعية.

النصوص الواردة في الكتاب تقع بين المقالة الأدبية التأملية والمذكرات الشخصية، بل تقترب من أدب السيرة الذاتية الجزئية. فهي ليست قصصًا قصيرة مكتملة الحبكة، ولا رواية ممتدة، بل نصوص حافلة بالانطباعات والمواقف الحياتية، تتخلّلها لغة شاعرية ورمزية، مع بُعد توثيقي يجعلها شهادة على زمن الحرب والتهجير والخيبات الفردية والجماعية.

 

• دلالات العنوان “رصاص وقيصر” في ضوء القراءة الذرائعية والرمزية:

 التحليل الدلالي للعنوان:

1. البنية اللغوية

رصاص: كلمة مباشرة، تحمل دلالة الحرب، الموت، القتل، القمع، الخراب، وأيضًا الدمار الاقتصادي والاجتماعي. هي كلمة واقعية، صلبة، خشنة الصوت، ترتبط بالفعل المادي العنيف.

 

قيصر: كلمة تاريخية–رمزية، تحيل إلى السلطة المطلقة، الحاكم الإمبراطوري، البطش، بلغة فيها مهابة وهيمنة، لكنها أيضًا تحمل ظلالًا أو استعارات سياسية معاصرة (القيصر الروسي، القانون الأميركي “قيصر” الخاص بالعقوبات على سوريا).

التركيب الثنائي يقوم على مقابلة صوتية ودلالية:

“رصاص” (قصيرة، صاخبة، مباشرة).

“قيصر” (أطول، اسم علَم، ثقيل الدلالة التاريخية والسياسية).

2. البعد الرمزي

الرصاص يمثل الواقع اليومي: الحرب، الفقد، الألم المادي.

القيصر يمثل الوجه السلطوي، أو القانون الذي يحكم المصائر، أو التاريخ الذي يضغط على الحاضر.

العنوان بذلك يزاوج بين المادي/الحربي والسلطوي/التاريخي، ليُنتج معنى مركبًا: إننا أمام نصوص تُحاصر الإنسان بين “رصاص الداخل” (الحرب) و”قيصر الخارج” (السلطة/القانون/العقوبات).

3. الدلالات السياسية والاجتماعية

يمكن قراءة “قيصر” على أنه قانون قيصر الأميركي، الذي فرض عقوبات اقتصادية زادت من ضيق الحياة على السوريين. وهنا يصبح العنوان تصريحًا سياسيًا مزدوجًا:

الرصاص = الحرب الداخلية.

قيصر = الحصار الخارجي.

في هذا البعد، يلتقط العنوان مأساة السوري بين مطرقة الداخل وسندان الخارج.

4. الدلالات الجمالية

الجمع بين كلمتين متباينتين (“رصاص” الواقعية العنيفة، و”قيصر” الرمزية–التاريخية) يخلق توترًا جماليًا يجذب القارئ منذ العتبة الأولى.

التنافر الدلالي يشبه ما في النصوص نفسها: بين المشهد اليومي الصغير (زحمة الصيدلية، الباص، المصرف) والمشهد الكوني الكبير (الحرب، المنفى، السلطة).

5. الدلالة الذرائعية

من منظور ذرائعي:

البؤرة الفكرية للعنوان تتحدد في فكرة الاختناق المزدوج: الإنسان مقموع بالرصاص ومقيّد بالقيصر.

الخلفية الأخلاقية تكشف عن موقف نقدي واضح: رفض العنف والسلطة القاهرة، والانحياز للإنسان البسيط الذي يعيش يومه بين رصاص الداخل وقيصر الخارج.

 

والخلاصة:

     العنوان “رصاص وقيصر” ليس مجرد تسمية، بل هو إطار تأويلي لكل النصوص، يلخّص مأساة الفرد في زمن الحروب والسلطات والعقوبات. هو عنوان ثنائي متوتر، يحوي في تضاده (الرصاص/القيصر) مفتاح القراءة: الإنسان مسحوق بين قوى أكبر منه، لكنه يحاول أن يكتب ويشهد.

 

• البؤرة الفكرية

البؤرة الفكرية تدور حول المقاومة اليومية لليأس، والبحث عن معنى وسط الخراب الاقتصادي والاجتماعي، حيث تتحول التجربة الفردية إلى نموذج جمعي يعكس حال السوري والعربي في مواجهة الفقد والغياب:

«لا بد أن نستعد لمحاربة اليأس بالعقل وباب القلب» (اليأس خارجًا).

«أشياؤنا البسيطة تجعلنا نكمل الطريق رغم الخسارات» (صبر جميل).

 

• الخلفية الأخلاقية

تنطلق النصوص من خلفية أخلاقية إنسانية تؤمن بالتشبث بالقيم البسيطة: الأمل، الصبر، الصداقة، التمسك بالوطن رغم النزوح. وتظهر بوضوح مواقف الكاتبة إزاء الحرب والغلاء والتغيرات الاجتماعية، حيث القيم تتعرض للاهتزاز لكنها تعود لتترسخ كملاذ إنساني.

• المستوى البصري

يتميز الكتاب بقدرة على التصوير البصري المباشر، عبر التقاط لحظات من الحياة اليومية: الزحام في المصرف، احتفالات المناسبات، الألوان الصاخبة للملابس، مشهد الطريق بين طرطوس وحمص، والكلاب التي ترافق القافلة:

«وجوه الناس كقوس قزح، ألوان صاخبة وصوت الطبول يغطي الصراخ» (ص. 18).

«مقاعد الباص بين طرطوس وحمص تحمل غصّات ذاكرة عشر سنوات» (ص. 95).

 

• المستوى اللغوي والجمالي

اللغة نثرية تأملية، مشبعة بالصور المجازية، قريبة من الشعر الحر في بعض المواضع. تتسم أحيانًا بالاختزال المكثّف وأحيانًا بالانسياب الخطابي. مثال:

«كانت الحياة صفعة، لكن الخسارة بدت مكسبًا» (ص. 12).

«الكلمة هربت من الفم، فبدت كنافذة للأمل» (ص. 47).

 

• المستوى الديناميكي :

التقنيات السردية:

التشظي السردي: النصوص مقاطع مستقلة، أشبه بومضات أو مشاهد يومية.

التقنية التناوبية بين الذاتي والموضوعي: تبدأ الكاتبة بتجربة شخصية ثم تنفتح على بعد عام.

غياب الحبكة التقليدية: السرد يقوم على الانطباع لا على العقدة والحل.

التكرار الدلالي: عبارات مثل “الأمل”، “الانتظار”، “الذاكرة” تعود مرارًا.

 

• المستوى النفسي

النصوص تنضح بـ ثلاثة مداخل:

1. التقمص: الكاتبة تتقمص حالات الآخرين (المسافر، الأم، المريض) وتعبر عنهم بصيغة الأنا.

2. التساؤلات: «هل سننجو؟ هل أصبنا؟ هل سنتغير بعد الكورونا؟» 

3. التناص: يظهر تناص صريح مع قصائد الجواهري («متفائل… متألم»)، ومع الأغنية الشعبية السورية 

 

• المستوى الرمزي والإيحائي

الرصاص = رمز للحرب والفقد.

القيصر = رمز للسلطة/النظام/الزمن الغالب.

الطريق = رمز للرحلة بين الماضي والحاضر.

الكلاب في القافلة = رمزية الوفاء الباقي في مقابل خيانة البشر 

 

• التجربة الإبداعية

الكاتبة رشا النقري تنطلق من تجربة معاشة متجذرة في الواقع السوري، تكتب بلغة غير متكلفة، تعكس صوتًا شخصيًا صادقًا، أقرب إلى أدب الشهادة منه إلى السرد المتخيل. التجربة الإبداعية هنا تقوم على تحويل اليومي العابر إلى نص أدبي قابل للتأمل.

 

في الختام:

يُمكن تصنيف “رصاص وقيصر” في خانة الأدب الملتبس بين المقالة الأدبية والسيرة الذاتية الجزئية. النصوص ليست فقط توثيقاً لزمن الألم، بل محاولات لاستخلاص معنى وجودي من الخراب. الذرائعية تكشف هنا عن مستويات متداخلة: بؤرة فكرية قائمة على الأمل، خلفية أخلاقية إنسانية، وبنية سردية تقوم على التشظي والانفعال اللحظي. العمل يكتسب قيمته من صدقه وتجذّره في التجربة الفردية والجمعية، ما يجعله وثيقة إنسانية وأدبية في آن واحد.

 

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *