سقوط الهيبة عند كاشير صغير

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 12.37.14 90498396

سقوط الهيبة عند كاشير صغير

بقلم الدكتورة/ لمياء موسى- لندن

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 12.36.03 95546d8e

 

تحية طيبة عطرة، أبعثها من قلب محب إلى جميع قرّائي وقارئاتي الكرام.

مقالي هذه المرة يتناول موضوعًا حساسًا ومربكًا بعض الشيء، لأن المرأة – منذ عقود طويلة – لم تخُض غماره كما ينبغي. موضوع بسيط في ظاهره، يستطيع أن يتعامل معه المتعلم والجاهل على السواء، غير أن المرأة – مهما بلغت درجتها العلمية – كثيرًا ما تجد نفسها في حرج شديد أمامه، وكأن الشاشة تُسدل أمامها حين تُبحر في أغواره أو حتى حين تلامس قشوره.

 

إنه عالم الأرقام والحسابات والتجارة والبيع والشراء.

فكم من امرأة وجدت نفسها ضحية للاحتيال أو الغش أو السرقة، لا لشيء سوى أن غيابها الطويل عن هذا المجال جعلها غريبة فيه، وكأن الأعين تلاحقها، والهمسات تُسجَّل عليها في كل حركة وسلوك. وليس هذا عجيبًا؛ فمن يغِب طويلًا عن ساحة ما، يشعر حتمًا بالاغتراب حين يعود إليها.

 

لقد جُعلت الفتاة – منذ طفولتها – غريبة عن المال، سواء بوعي أو بدون وعي من قِبل والديها. فحين تخرج مع أخيها الأصغر منها سنًا، يكون هو المكلّف بحمل النقود والشراء والحديث مع البائع، وهو من يحسب ويأخذ الباقي ويعرف الأسعار، بينما يقتصر دورها على الاختيار فقط، دون أن تمارس حقها في التعامل المباشر. هكذا تُعامَل كما لو كانت فاقدة الأهلية، وكأن عقلها لا يُحسن التدبير أو التصرف، لأن مصروفها – لو أُوكل إليها – قد يذهب إلى ما يُعَد في نظر الكبار “تفاهات”.

 

ترسّخ هذا السلوك في اللاوعي الجمعي، فشبّت المرأة وهي تحمل قناعة مزعومة بأنها لا تُجيد الحساب ولا تُحسن الإدارة، وأن عليها أن تسلّم زمام الأمور لغيرها. وهكذا استمر التهميش، جيلًا بعد جيل.

ولو عدنا بالزمن آلاف السنين إلى الوراء، لوجدنا أن المرأة في الحضارات القديمة كانت صاحبة مال وسلطة، وكان يُسجَّل باسمها الصكوك والأملاك، ولا عجب أن نرى نساءً حكمن شعوبًا، وأدرن شؤون دول بأكملها، وتولين مناصب أشبه بالوزارات اليوم، فأشرفن على شؤون العدل والتجارة والإدارة وحتى الحروب. قادت بعضهن جيوش أوطانهن في ساحات القتال، ولم يكن في ذلك غرابة على مجتمع قد اعترف بقدراتهن آنذاك.

 

ولعل أقرب مثال تاريخي إلينا هو السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تلك التاجرة الذكية التي لم يُشق لها غبار في أسواق قريش. وهناك نماذج كثيرة لنساء عبر التاريخ دخلن عالم المال بقوة، وأثبتن حضورهن في التجارة والإدارة والاقتصاد. ومع ذلك، تبقى هذه النماذج – على كثرتها – مجرد حالات فردية لا تمثل النسبة العامة، إذ ما زالت الصورة السائدة عن المرأة في معظم المجتمعات أنها ضعيفة الأهلية، عاجزة عن إدارة المال أو تسيير مؤسسة أو قيادة تجارة ضخمة.

 

وهنا تتجلّى المأساة الكبرى: ليست المشكلة فقط في تهميش المرأة من قِبل المجتمع، بل في اقتناعها الداخلي بأنها عاجزة عن خوض هذا الميدان. فالخطر الأكبر أن تؤمن المرأة بنفسها أنها غير قادرة، وأن تصدّق الوهم بأنها لا تصلح لإدارة المال أو التخطيط أو القيادة.

 

إنها معركة مركّبة، تبدأ من داخل المرأة ذاتها، إذ عليها أن تستعيد ثقتها بنفسها وبقدراتها، وأن تدرك أنها إنسان كامل متكامل، يحمل من الذكاء والقوة والتخطيط والتحمّل ما يحمله الرجل تمامًا. وكي تنهض المرأة بحق، لا بد أن تتحرر من قيود الصورة النمطية التي زُرعت في وعيها منذ الطفولة، وأن تُعيد صياغة يقينها بذاتها، فهي قادرة على خوض جميع الميادين جنبًا إلى جنب الرجل.

 

سأروي لكم، أعزائي القراء، حكاية قد تبدو طريفة في ظاهرها، لكنها تخفي في أعماقها وجعًا كبيرًا.

ذات يوم قصدت بقالة كبيرة، أقرب إلى سوبر ماركت ضخم، جمعت حاجياتي في عربة ممتلئة، ثم توجهت نحو صندوق الدفع لأحاسب. ولسوء الحظ، كان النظام البنكي معطَّلًا في ذلك اليوم، فلم يُقبل الدفع بالبطاقات، واضطررنا جميعًا – نحن النساء غالبًا ممن يتسوقن في أيام العطلات – إلى التعامل بالكاش، بأوراق النقود فقط.

 

آهٍ مما شهدتُ ورأيت. الطابور كان طويلًا، والانتظار أطول، ليس بسبب كثرة المتسوقين وحسب، بل لأن مجرد حساب بسيط أو بضع جنيهات من “الباقي” كان كفيلًا بإرباك الكثيرات. أمامي امرأة محترمة وقعت في حيرة حين طلب منها البائع أن تكمل المبلغ: “خذي ثلاثة جنيهات وأعطيني عشرين”، فلم تستطع أن تحسب على عجل ما لها وما عليها. ارتبكت وارتبكت معها أنا أيضًا، إذ كنت أخشى أن أتعرض للموقف ذاته. فما إن يطلب البائع مني شيئًا كهذا، حتى أشعر وكأن عقلي ارتبك، ودوامة من الحسابات الصغيرة تُشتتني، فأفضّل أن أخسر جزءًا من مالي على أن أبدو غافلة أو مرتبكة أمام الكاشير.

 

حين لمحت حيرتها، ابتسمت لها لأرفع عنها الحرج وقلت: “لا تخجلي يا أختي، فأنا مثلك تمامًا”. ربما كانت هذه السيدة أستاذة جامعية أو طبيبة أسنان أو طبيبة بشرية مرموقة، ومع ذلك وجدت نفسها عاجزة عن التصرف في حسابات بسيطة من بضع جنيهات. أردت أن أطمئنها بأنني شريكة في هذا الارتباك، وأن الأمر لا ينتقص من قيمتها أو قيمتي. نحن – رغم العلم والمكانة – كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام المال في موضع العجز والارتباك، وكأن أيدينا قد اعتادت ترك زمام هذه المسؤولية لغيرنا.

 

في مواقف البيع والشراء، كثيرًا ما تجد المرأة نفسها – مهما بلغت من العمر – عاجزة عن إبرام العقد بنفسها. قلة قليلة فقط تستطيع أن تُقدم على هذه الخطوة بثقة، أما الغالبية فتستعين برجل يرافقها: أخًا كان أو زوجًا أو ابنًا أو حتى حفيدًا. المهم أنها لا تثق بذاتها ولا بقدرتها على حفظ حقها أو إتمام المعاملة كاملة دون عون خارجي.

 

نهيك عن دخولها عالم التجارة أو افتتاح مشروع خاص تديره بيدها، أو تعاملها المباشر مع التجار، أو اقتحامها لعالم البورصة والاستثمار، أو حتى إدارة مالها بنفسها في مشروع أحلامها… كل هذه المجالات ما زال حضور المرأة فيها محدودًا إلى حدٍّ كبير، وغيابها واضحًا للعيان.

 

والأدهى أن كثيرًا من النساء يبتعدن عن هذه الساحات لا لقصور في قدراتهن، بل لغياب ثقتهن بأنفسهن، وهنا مكمن الألم الحقيقي: أن تُهمّش المرأة ذاتها بنفسها، وأن تتراجع أمام أحلامها قبل أن تُجرب.

 

وهذه ليست أزمة خاصة بالمرأة في الشرق الأوسط وحده، بل هي أزمة نساء العالم أجمع، وإن اختلفت في نسبها وحدتها بين الثقافات. هناك ما يشبه الغربة العالمية في دخول المرأة عالم الأرقام والتجارة.

 

المشكلة – بهذا العمق – لا تُعالج بسرعة، ولا تُحل بقرارات وقتية أو شعارات براقة، بل تحتاج إلى مراحل وصبر طويل. وأي خطوة مهما بدت صغيرة تُعد إنجازًا؛ فكل لبنة تُوضع في مسار الإصلاح تصنع فارقًا في المستقبل.

 

وهنا أعود دائمًا إلى السلاح الأهم: التوعية. التوعية المستمرة وورش العمل الموجهة للآباء والأمهات، لأن البداية والنهاية تنطلق من الأسرة. فهي اللبنة الأولى في البناء، وإذا لم تُربَّ الابنة منذ طفولتها على الثقة في ذاتها، وعلى إيمانها بأنها كاملة مكتملة مثل أخيها تمامًا، ستنشأ هشّة، تخشى المسؤولية، وتُصدق الوهم بأنها عاجزة.

 

حين يُزرع في الفتاة منذ صغرها أنها قادرة على فعل أي شيء، وأنها إنسان مكتمل الأهلية، يصبح الطريق أكثر وضوحًا. هذه التربية الواعية هي التي ستصنع، خلال عشرين أو ثلاثين عامًا، جيلًا جديدًا بعقل جمعي مختلف، بفكر ناضج، وبوعي قادر على تجاوز القيود القديمة.

 

هكذا فعلت الدول المتقدمة؛ بدأت من الأسرة، من المدرسة، من الجامعة. ومن هناك وصلت المرأة لا إلى استرداد بعض حقوقها فحسب، بل إلى إدراك استحقاقها لهذه الحقوق، وإيمانها بأنها ليست منحة من أحد، بل جزء من كيانها ووجودها. وهنا يكمن جوهر التغيير.

 

ولهذا أكتب كلماتي اليوم، لأوجّهها إليك مباشرة:

إلى كل امرأة ما زالت تظن أن المال والتجارة والاستثمار حكرٌ على الرجل، إلى كل من تخشى الفشل قبل أن تبدأ، وإلى كل من صدقت أن قدراتها ناقصة… أقول: أنتِ كاملة مكتملة، قادرة على الحلم والعمل والنجاح، وما عليك سوى أن تمنحي نفسك فرصة الثقة والانطلاق.

 

يا ابنة الشرق… يا ابنة الكوكب…

يا من تملكين طاقة قادرة على أن تزرع في الأرض سلامًا وأمانًا، ويلازمك الحب حيثما حللتِ، فيثمر استقرارًا وطمأنينة.

 

بدونكِ يصبح هذا الكوكب صحراء قاحلة، تلتهمها الصراعات والجفاف. وأنتِ وحدكِ من يضيء نوره بالمحبة والأمل.

 

أقول لكِ بعض الكلمات… قد تراها العين بديهية، ولكني أكتبها لتقرأها القلوب:

أنتِ لست نصف الكوكب… بل أنتِ الكوكب كله.

أنتِ النصف الأجمل، الأحنّ، الأقدر على العطاء بلا حدود.

 

فيكِ اختصر الخالق معجزته، وجعل بين أحشائك استمرار الحياة. تُنجبين النصف الآخر، وتُربيه بيديكِ، لتكملي به دائرة الوجود. فهذا تكريم لا نقصان لقوم يفقهون، فجعل منكِ إنسانًا كاملًا متكاملًا، لا ينقصك شيء. كل القدرات والإمكانات مودعة في داخلكِ، كما قال ابن العربي: “فيك انطوى العالم الأكبر”.

 

ابحثي في داخلكِ عن كل ما ضاع منكِ… ستجدينه.

وحين تجديه، أطلقينه نورًا من قلبكِ إلى قلوبنا جميعًا، ليضيء دروبنا بالحب والجمال.

 

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *