طقوس التوهّج العاطفي في ديوان(واشتعل القلب عشقًا) للشاعرة الجزائرية وردة أيوب عزيزي

صورة واتساب بتاريخ 1447 02 20 في 12.27.06 c1f610e7 Copy

طقوس التوهّج العاطفي في ديوان(واشتعل القلب عشقًا) للشاعرة الجزائرية وردة أيوب عزيزي

بقلم: د.عبير خالد يحيي

صورة واتساب بتاريخ 1447 02 14 في 00.57.59 a7abf626


مقدمة:

      يمثل ديوان “واشتعلَ القلبُ عشقًا” للشاعرة وردة أيوب عزيزي صوتًا شعريًا أنثويًا متقدًا بالعاطفة، موغلًا في الشعرية الغزلية بطابع صوفي ووجداني.

تنتمي معظم نصوص الديوان إلى الشعر العمودي الحر (التحرري من القافية الواحدة)، حيث تُحافظ الشاعرة على بنى عروضية جزئية، وتنسجُ على منوال التفعيلة أحيانًا، لكنها تكتب بروح قصيدة الشطرين أيضًا، مما يمنح النصوص تماوجًا إيقاعيًا خاصًا بين العمودي والحر.

يتّسم الديوان بطغيان الصوت الفردي الأنثوي، وتمركزه حول قضايا الحب، الخيبة، الانتظار، والمقدّس العاطفي، بلغة تنهل من المعجم الديني والوجداني على حدّ سواء.


البؤرة الفكرية للديوان:

     الحب بوصفه قَدَرًا وجوديًا لا يُرد، وطقسًا روحيًا يختلط فيه العاطفي بالميتافيزيقي.

هي قصائد تسعى إلى إعادة تموضع الذات العاشقة في قلب الأسئلة الكونية، لا لتعلن انتصارها أو انكسارها، وإنما لتمنح الألم صيغة جمالية تُعادل البكاء بالنور.

الثيمة الرئيسية: الانفعال العاشق كهوية شعرية، حيث لا فرق بين صوت الشاعرة وصوت الحبيبة؛ فكلاهما يتداخل في سردية مشاعر لا تُخفي هشاشتها، بل تعلنها على الملأ بوصفها نوعًا من الاستغفار العاطفي.

الثيمات الفرعية:

التصعيد الصوفي للعاطفة: الحبيب يُصبح قبلة روحية، والحب صلاة.

التضاد الوجداني: حضور الغياب، جهر الهوى وكتمانه.

أثر الخيبة: لا بوصفها نكسة، بل كتحوّل في الإدراك العاطفي.

التماهي مع الأنثى المُتألمة والمقدّسة في آنٍ واحد.

تحليل بعض قصائد من الديوان:

1- “درويشة”: 

الأنثى الصوفية في الشعر النسائي المعاصر

لم تعدِ الأنثى في الشعر النسائي المعاصر محصورة في ثنائية العاشقة/المعشوقة، بل انبثقت صور جديدة تحتفي بالأنثى بوصفها كائنًا روحيًا يمارس الحب كطقس داخلي.

من هذه الصور، تبرز صورة الأنثى الصوفية التي لا تبحث عن التملّك، بل عن التجلّي، والتي لا تخاطب الحبيب بل تخاطب الحب، لا لتبوح، بل لتتطهّر.

في هذا السياق، تأتي قصيدة “درويشة” للشاعرة وردة أيوب عزيزي كنموذج شعري يُعيد إنتاج الحب في هيئة إيمان باطني، ويعيد إنتاج الذات الأنثوية بوصفها كاهنة العاطفة.

أولًا: “درويشة” – تعريف الذات العاشقة كهوية صوفية

إني نقشتُ، 

بضلع الروحِ: أهواكا

درويشةٌ من شذا التسبيحِ

نجواكا

تبدأ القصيدة بإعلان صريح عن “الهوية العاطفية”:

الأنثى هنا ليست امرأة تنتظر، بل درويشة، أي أنها اختارت مقام التجريد، ونفت عن نفسها التعلّق المادي.

الحبّ عندها لا يُمارَس، بل يُصلَّى فيه، ويُرتَّل كما تُرتَّل النصوص المقدسة.

ثانيًا: تحويل الحبيب إلى معبود رمزي

نورٌ توضّأ بالأحلام رؤيتُها

تفسّرُ الماء 

بالتأويلِ عيناكا

الشاعرة لا تطلب الحبيب، بل تُطلب به، أي أنها ترتقي عبره إلى مقام روحاني.

تُسبّحُ الليل في الأفلاك سجدتِها= جمال التواضع واللين

محرابُها مريميُّ الطهر أسراكا= تطهير بالنقاء العاطفي لا بالماء الطقسي

بهذا، يتحول الحب من علاقة إلى سبيل للنقاء، وتتحول الأنثى من متلقّية للعاطفة إلى كائنة متطهّرة بها.

ثالثًا: بلاغة الظل والحضور الغائب

من أبرز السمات التي تتكرّر في قصيدة “درويشة” وفي العديد من مواضع الديوان، حضور بلاغة الظلّ بوصفه تعبيرًا عن العشق المتعالي، حيث يُصبح الحبيب كائنًا غائبًا حاضرًا عبر أثره لا ذاته.

وهنا نقرأ: 

ويعكفُ النور محتارًا بقِبلتها

محرابُها مريميُّ 

الطهرِ أسراكا


الظلّ والنور الحائر كلاهما علامة على غياب الحبيب الملموس:

الظلّ في “درويشة” هو ما تبقّى من أثر الحبيب.

النور المحتار في هذا البيت هو ما يتردّد بين الظهور والاحتجاب أمام “قبلتها”، التي هي تعبير رمزي عن موضوع العشق.


 البنية العميقة لهذه الصور:

المحراب المريميّ:

ليس محراب لقاء، بل مقام انتظار بتولي؛ الحضور فيه غائب بالجسد، حاضر بالأثر — يشبه “ظلّ الحبيب” تمامًا.

الطهر أسراكا:

الطهر ليس فعلًا جسديًا بل حالة روحية تفيض أسرارها — أي أن الحضور هنا حضور ظلّي روحي، لا تحقّق مادي.


الدلالة الصوفية:

في الصوفية، الحضور الأتمّ يكون في الغياب:

العاشق يرى في الغياب عمق الحضور.

ويُدرك في الظلّ سرّ المحبوب أكثر مما يُدركه في جسده.

هذه الدلالة مُفعَّلة في “درويشة” وفي هذا المقطع ببلاغة دقيقة:

طلبُ لمس الظلّ، لا الجسد.

نور محتار لا يجرؤ على كشف الحبيبة.

محراب قائم على طهر الأسرار، لا على اللقاء الحسي.

والخلاصة:

هكذا تُعيد وردة أيوب عزيزي في درويشة وفي نصوصها الموازية صياغة صورة العاشقة الصوفية:

هي أنثى تسكن ظلّ الحبيب لا جسده، وتتطهّر بطهر الغياب لا بلقاء الحضور، وتحول الحب إلى مقام صلاة، والقصيدة إلى محراب مشعٍّ بالأثر، لا بالامتلاء.

هكذا، تُعيد الشاعرة ترميز المشاعر إلى طقوس، وتحول القصيدة إلى شعيرة حبّ داخلي، تُقدَّم فيها الأنثى على مذبح الحنين كشاهدة على حبّ متعالٍ.

رابعًا: الأنثى الصوفية في مواجهة الأنثى العاشقة التقليدية

في الشعر النسائي المعاصر، كثيرًا ما تُقدَّم المرأة العاشقة ضمن نماذج مألوفة:

– الحبيبة التي تنتظر اللقاء

– أو تلك التي تشتكي الخيانة

– أو تُعلن توقها للجسد، أو للمساواة، أو حتى للتمرّد العاطفي

لكن وردة أيوب عزيزي تذهب بعيدًا عن هذا النموذج السائد، وتكتب الأنثى التي تحب كأنها تصلّي، وتتطهّر كأنها تنام على جناح المعنى.

هي لا تطلب من الحبيب أن يمنحها، بل تطلب من الحب نفسه أن يُنيرها، وأن “يأذن” لها بالاقتراب من ظله، لا من جسده.

تُسبّحُ الليل في الأفلاك سجدتِها

وتسألُ اللهَ..

علَّ الروح تلقاكا

إنها لا تطلب لقاءً ماديًّا، بل رجاءً روحانيًا يتجاوز الرغبة.

المقارنة بين النموذجين:


العنصر                    الأنثى العاشقة التقليدية              الأنثى الصوفية في “درويشة”

الحضور         تطلب الحضور المادي للحبيب            تكتفي بظلّه كأثر رمزي مقدّس

القبلة          فعل جسدي يُوحي بالرغبة            طقس شعائري تغمره الاستعارة والتطهّر

الرجاء          يوجَّه إلى الحبيب نفسه                      يُوجَّه إلى “الحبّ” كمفهوم علوي، أشبه بالدعاء

الصوت         جهوري، صاخب، احتجاجي أو حالم هامس، متأمل، مُتطهّر، يُمارس البوح كتسبيح

الأنوثة         غالبًا تُقدَّم بوصفها جسدية أو عاطفية أنوثة رمزية – روحانية – منصهرة في المعنى


بهذا، تعلن “درويشة” عن أنوثة جديدة، لا تتكئ على الجسد، ولا على العتاب، ولا على انتظار المُقابل، بل تقدم الحب كحالة “سُكر عرفاني”، وتحول العاشقة إلى “درويشة” تعبر بها الشاعرة نحو مرتبة أسمى: العاشقة التي لا تطلب شيئًا إلا أن تُنقَّى.

خامسًا: التموقع في خطاب نسوي تأملي

وردة أيوب عزيزي لا تُعلن تمردًا نسويًا مباشرًا، لكنها تُقدّم نموذجًا مغايرًا للأنثى العاشقة:

أنثى لا تطلب من الآخر أن يمنحها، بل تطلب من الحب أن “يرتقي بها”، فتصبح هي الأصل، والمحبوب ظلًا.

تمثّل قصيدة “درويشة” مرحلة متقدمة في تشكل الخطاب الصوفي الأنثوي داخل القصيدة النسائية العربية المعاصرة. فهي لا تُعيد إنتاج الشوق، بل تُعيد تقديسه، ولا ترفع صوتها لتطالب، بل تهمس لتصلي، وتحيل الألم إلى صلاة، والحب إلى محراب، والأنوثة إلى مقام رمزي يتجاوز الجسد واللغة معًا.


2- “تنبؤات شاعرة”

نص بضمير المتكلمة، يُجاهر بخيبة مرتقبة، ويتحول فيه البوح إلى شهادة فنية.

على المستوى التداولي الذرائعي العميق:

1. الوظيفة الإخبارية/الإقرارية:

 القصيدة تقوم على تقرير الواقع العاطفي من منظور المتكلمة. الأفعال “تنبأت، رحلت، هدمت، بنيت، أجهضت” هي أفعال إنجازية تُشير إلى أفعال داخل علاقة منتهية، وتُشكّل إطارًا لتوثيق الفقد والخذلان.

تنبأتُ، بنيتُ، أجهضتُ :  تُظهر الفاعلية الأنثوية مقابل انسحاب الطرف الآخر.

2. الوظيفة التأثيرية:

رغم أن الخطاب يبدو ذاتيًا، إلا أنه موجه إلى “أنت”، في سياق توبيخي عاطفي غير مباشر:

استخدام ضمير المخاطب (رحلتَ، سافرتَ، هدمتَ) يوحي باللوم والخذلان.

الصمت المقابل يعمّق الإحساس بالمفارقة، وكأنها تكتب ردًّا لم يُقال.

3. الوظيفة التعبيرية:

كل بيت في القصيدة هو بوح داخلي ينقل أحاسيس الخيبة، الذهول، والخذلان.

(وماكنتُ أعلمُ أنيَ عبءٌ ثقيلٌ عليكَ) ليست مجرد جملة، بل اعتراف فجّ بصدى المهانة التي خَلّفها الانسحاب.

4. الوظيفة الشعرية (البلاغية التداولية):

توظيف المفارقة الزمنية: (وهجرًا لأخرى نويتَ  بنيتُ قصيدًا فهدمتَ بيتا)

(وأجهضتُ كلَّ الحروفِ وكلَّ المعاني): استعارة قوية فيها تحويل القصيدة إلى كائن حيّ، وهي خسارة مزدوجة: عاطفية وجمالية.

أبرز المستويات التي يمكن تناولها ذرائعيًّا في هذه القصيدة:

1. التناص مع المفردات النبوئية:

“تنبأتُ”: توحي بأن الشاعرة تتقمّص دور العارفة بالمصير، لكنها في الوقت ذاته منكسرة، مما يخلق ثنائية الإدراك والخذلان.

2. المعماريّة الشعرية:

البيت/القصيدة : كلاهما بناءٌ انهار بهجر الحبيب.

“هدمتَ بيتًا” يقابله “وقصيدًا بنيتُ”: هنا تبادل رمزي بين البيت كعلاقة والقصيدة كحبّ.

 3. الاقتصاد في اللغة، والثراء في التوتر الدلالي:

القصيدة قصيرة لكنها تحوي مشاهد متتالية: توقّع/خذلان، بناء/هدم، إعلان/إجهاض.

هذا التقطيع يضفي إيقاعًا موجوعًا متسارعًا، يتطابق مع الحالة النفسية المتوترة.

الخلاصة: 

“تنبؤات شاعرة” ليست مجرد نص عن الخيبة، بل نص يتقاطع فيه الشعري مع التداولي، حيث تتحوّل التجربة العاطفية إلى حدث بلاغي كامل، يتم فيه نقل الألم من الذات إلى النص، في تواطؤ سردي يراهن على الشاعرية أكثر من البكاء.

هي قصيدة تكتب الخسارة كأنها شهادة حُبّ لم يُكتمل، ووصية بناء لم يكتمل سكّانه.


3- “رذاذ الحب”

إعلان جريء للحبّ يجاوره حبّ أعمق لا يُقال، بل يُشعَر. القصيدة تلعب على المسافة بين “التصريح والتلميح”.

المستوى التداولي:

1. الوظيفة التعبيرية:

القصيدة ذات طابع وجداني خالص، حيث يتماهى النص مع مشاعر متكلمة لا تُخفي الحبّ بل تُعلنه، بل تعلنه لتكشف عن عمقٍ أكبر يظلّ كامنًا خلفه.

(أحبُّكَ جهرا) = الاعتراف

(وأهواك عمري) = المكنون العميق الذي لا يُقال.

الفرق بين “الحب” و”الهوى” هنا يضطلع بوظيفة تداولية: تفريق المقامات بين المعلن والمقموع، بين السطح والجوهر.

2. الوظيفة التأثيرية:

لا يُوجّه الكلام للحبيب فقط، بل يُشرك القارئ في حالة التصعيد الداخلي للعاطفة.

هو خطاب ينتمي إلى “بلاغة الاعتراف”، لكنه أكثر شفافية من الاعتراف الكلاسيكي لأنه:

لا يطلب، بل يُفصح، لا يلوم، بل يفيض

3. الوظيفة الإيحائية (الشعرية التداولية):

تنمو دلالات القصيدة في فضاء تتخلّله استعارات: الماء، الظل، المطر، الضوء، وهي كلها رموز للحنين والحضور المتقطّع.

التراكيب مثل:

 (وأهواكَ في البعدِ في القربِ سِرًّا)

(وأهوكَ..عمري إذا طالَ عمري)

تفتح مساحة تداولية جديدة حيث الهوى لا يحتاج إلى صوت كي يكون، بل يكفيه التسرّب والانعكاس.

العنصر الشعري المميز:

1. الاقتصاد الدلالي المكثّف:

(أحبُّك جهرًا، وأبغي المزيد):جملة قصيرة، جملة تنزاح بين العلن والسر، لكنها تحمل مفارقة ذات كثافة عاطفية هائلة، وتُكثّف المفارقة العاطفية ببلاغة رمزية.

تصعيد تراتبي للحب (من الحب إلى الهوى)، ومن (السر إلى الجهر) استبطان للبوح، حيث المعلن ليس أكثر من ظلّ لحقيقة أعمق.

2. تقنية المراوحة بين الحسي والروحي:

القصيدة تنقلنا بين الصور الحسية (الطفل، البيت): (وأحيَاكَ طفلًا وعمرًا جديدْ.)

 وبين الصور الروحية (الحب، السعادة، العمر):(تظلُّ انتظاري وبيتي السعيد)

 فتخلق تيارًا وجدانيًا منزلقًا بين الحواس والوجدان.

 3. حوارية داخلية مزدوجة:

رغم أن الخطاب موجّه إلى “أنتَ”، إلا أن الشاعرة في الحقيقة تخاطب ذاتها المنكسرة في الغياب.

فيتحوّل الحبيب من مفعول به إلى حالة شعورية تنتقل في الداخل.

قصيدة “رذاذ الحب” تمثل الحالة الأكثر تكثيفًا في التعبير العاطفي في الديوان، حيث لا صراخ، ولا لوم، ولا رجاء، بل بوحٌ صافٍ ينتقل من سطح اللغة إلى عمقها.

هي قصيدة تقف على الحدّ الفاصل بين الحضور والغياب، بين التصريح والتموّه، وتُحسن اللعب على إيقاع الرغبة المؤجلة.

ترشّ الحبّ لا كبَوح، بل كرذاذ… لا يبلّل الجسد فقط، كذلك الروح.


المستوى الجمالي في ديوان واشتعل القلب عشقًا:

جمالية الحُب الصوفي والتواشج بين الصورة والبوح:

يتميّز ديوان واشتعل القلب عشقًا بجمالية ذات منحى تطريزيّ، تعتمد على تشبيك دقيق بين الإيقاع الداخلي والانزياح البلاغي، بما يُشكّل نسقًا شعريًا خاصًا يعتمد على الرقّة المتوترة والتكثيف الشفيف.

1. الجمالية اللغوية:

الألفاظ منتقاة بعناية حسّية ووجدانية:

(محاريب، معراج، وضوء، نهر، نهد، سَهد، سجود، ظل، عطر، لهفة)

تكرار المفردات بصيغة تدويمية (كالأدعية) يضفي بعدًا صوفيًا، حيث تتحول القصيدة إلى تراتيل حبّ.

2. جمالية الإيقاع:

 تمزج الشاعرة بين إيقاع داخلي متقطع (يقارب النبض)، وبين امتدادات نغمية سلسة تجعل النصوص قابلة للترتيل أكثر من التقطيع.

لا تلتزم الشاعرة بالقافية التقليدية، بل تفتح مجالًا واسعًا للتنغيم النفسي واللفظي عبر الصور.

3. جمالية الصورة:

الصور الشعرية ليست زخرفًا، بل حوامل وجدانية:

(فكّكي زرَّ الغياب .. بالشروق والسلام)

( سيدي يا كلَّ كُلّي.. ها تغيبُ اليومَ روحًا)

( قم تعال.. كي يصير الحب عزفًا)

هذه الصور ترتكز على تشاكل بين الجسد والروح، وتُؤسس لتراكيب مجازية مدهشة تُخفي الألم خلف لمسة قداسة.

المستوى الرمزي

الحبيب بوصفه رمزًا للتوحّد… والقصيدة بوصفها تعميدًا للنفس:

1. الرموز الصوفية الكبرى:

الديوان ينهل بعمق من الرمزية الصوفية التي تنتمي إلى حقل العشق الإلهي، لكنه يضعها في قوالب دنيوية شديدة الشفافية:

الحبيب = القبلة/المحراب/المعراج

العشق = صلاة/نور/ارتقاء

القصيدة = معراج للتطهّر

الأنثى = نبيّة الغواية المقدسة

2. رمزية الماء والنور:

الماء متكرّر كرمز للريّ بعد الظمأ العاطفي، والنور ككشف داخلي:

( وماءُ وريدِك نهري وسهلي)

( ويعكفُ النور محتارًا بقبلتها) 

3. رمزية الخسارة والاحتراق:

الفقد ليس موتًا بل “احتراق طاهر”:

“بنيتُ قصيدة وهدمتَ بيتًا”:انهيار العلاقات يُعاد إعماره في النص

“أجهضتُ الحروف” :  القصيدة ككائن حيّ أُعدم قبل الميلاد


تمثل المستويات الجمالية والرمزية معًا السقف البنيوي الذي يستند عليه الحس التداولي والنفسي في هذا الديوان. فكل صورة، وكل كلمة، لا تأتي لتُجمّل، وإنما لتُرمّز، وتُشفّر، وتُؤدي طقسًا شعريًا غامضًا أشبه بالتجلي العاطفي.

بهذا التداخل، يُمكن القول إن ديوان (واشتعل القلب عشقًا) ليس مجرد مجموعة قصائد غزلية، بل نصوص طقسية تعبر من الشعر إلى الروح، ومن المجاز إلى الكشف.

المستوى النفسي والتداولي

قراءة ذرائعية في اللغة الوجدانية والانفعالات الشعورية

في ضوء التحليل الذرائعي، يُمكن اعتبار المستوى النفسي هو اللبّ المحرّك للنصوص في ديوان واشتعلَ القلبُ عشقًا، نظرًا لتراكم الحمولات الشعورية وتحول اللغة إلى وسيط علاجي واعترافي في آنٍ واحد.

الشاعرة وردة أيوب عزيزي لا تستدعي اللغة من أجل وصف العاطفة فحسب، بل من أجل تفريغ شعوري مؤجّل، تنقله من دائرة الانفعال إلى دائرة الإنجاز اللفظي المؤثّر.

1. الذات المتكلمة: مركز الانفعال

جميع القصائد تقريبًا تعتمد ضمير المتكلم (أنا)، وتستحضر المخاطب (أنت) بوصفه كائنًا غائبًا حاضرًا في اللغة.

لكن هذه الـ”أنا” ليست أنا مستقرة، بل أنا متقلّبة، هشّة، جريحة، وفي الوقت نفسه شاعرة تسيطر على لغتها بوعي إنجازي.

يظهر ذلك في:

“أحبّك جهرًا… وأهواك “: الفرق بين الجهر والكتمان يدل على انقسام داخلي

“بنيتُ قصيدة وهدمتَ بيتًا”: الانهيار العاطفي يُعاد بناؤه عبر الاستعارة

2. لغة الانفعال: الشعر كمرآة مطفأة

القصائد تعجّ بألفاظ: الحزن، السُهد، اللهفة، النور، المطر، المعراج، الإثم، السجود، الظمأ، الظلال…

كلها إشارات نفسية رمزية، تنقل المتلقّي من مجرد التلقي العاطفي إلى المشاركة الشعورية والتورط الوجداني.

إنها لا تكتفي بوصف الحب، بل تسكن فيه، وتطلب من القارئ أن يسكن معها.

3. من اللغة إلى الطقس: التحوّل التداولي

في قصائد مثل “تنبؤات شاعرة” و*”رذاذ الحب”*، تتجاوز اللغة دورها التداولي الإخباري لتتحول إلى طقس لغوي – شعوري:

(تعالَ لأرويكَ زمزم رضبي): يتحول العشق إلى طقس التروية بزمزم

(توضّأتُ حبّك): الحب يتحوّل إلى طقس طهارة.

تُمارس القصيدة هنا وظيفة شبيهة بالصلاة، حيث تُعاد كتابة الذات عبر اللغة.

4. النتائج النفسية ضمن السياق الذرائعي:

تفكيك الصورة المثالية للحب إلى مشهد داخلي متنازع عليه.

تفجير الرغبة بالقول بعد صمت طويل (من خلال كثافة الأفعال الإنجازية).

سيطرة الذات على أدواتها الشعرية، رغم هشاشتها الشعورية.

في ديوان واشتعلَ القلب عشقًا، تُنجز الشاعرة وردة أيوب عزيزي كتابة وجدانية تُترجم الألم ليس بلغة البكاء، ولكن بلغة المرايا.

وتُحوِّل القصيدة إلى أداة للتطهّر، حيث تتحوّل الانفعالات إلى أقانيم شعرية، وتتحول اللغة إلى حالة نفسية مكتملة.

بهذا، يُصبح المستوى النفسي التداولي هو الرافعة الذرائعية الأوضح في هذا الديوان، ويُمكن اعتباره منطقة الكشف الأعمق عن نَفَس القصائد وهواجسها الصامتة.


الخاتمة:

يُعدّ ديوان (واشتعلَ القلب عشقًا) تجربة شعرية تحفر في قلب العاطفة بأنامل أنثى تعرف كيف تجعل من الغياب حضورًا، ومن الحب صلاة، ومن القصيدة معراجًا للألم الجميل.

كتابة لا تستعرض العشق، وإنما تتطهّر به، ولا تصرخ وإنما تهمس، لكنها تزلزل.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *