
طه حسين : بين القلق النفسى وأصالة العبقرية
بقلم الدكتورة/ رضوى إبراهيم

كثيرة هى الكتابات التى نشرت عن طه حسين ، لكن مازال عميد الأدب العربى يجتذب المؤلفين والباحثين والدارسين فى شتى المجالات ، فالجميع يعتقد أنه يعرف طه حسين ، وعميدنا يغري الجميع بأسلوب يتدفق سهلًا سلسًا لا التواء فيه ، ويبدو واضحًا شفافًا سواء اتسم بطابع الحديث الحميم أو بجلال الأستاذية والخطابة الفخمة، أسلوبه يغرى خصومه والمعجبين به على السواء ويوهمهم جميعًا بأنهم يفهمون مراميه ، والكل لا يدرك أن السطح الأملس الشفاف يخفى فكرًا يعتمل بالتوتر والتناقض .
والمقال الذى نحن بصدده ما هو إلا محاولة لاستكشاف تلك الأعماق المضطربة ، فهو يتقصى سريعًا مسيرة “طه” التعليمية ويقدم محاولة نفسية تحليلية للتعمق فى فهمنا لهذا المفكر و عن حياته الفكرية .. بتسليط الضوء على عدة مواضع من أهمها تعرضه لاضطرابات نفسية عنيفة – جميعها – تندرج تحت أمراض القلق النفسى ، وبما يتسق مع فهم حالته الفكرية غير المستقرة التى كانت تتسم بها مراحل حياته – وأيضًا تناول خبرته الحياتية لمحاولة استيعاب مواقفه الأساسية من الحياة التى استمر يبذلها فى مراحل نضجه لمصارعة التناقضات الناجمة عن التزامه بوضعيته فى تعليمه فى شبابه ونضجه ، وفى حدود التعليم النظامي الذى تلقاه “طه” فى مصر وفرنسا .
إنه لمن السذاجة أن نتخيل أن أزهريًا مثل طه حسين يمكن أن يتحول إلى الإيمان الصارم بالعقلانية والعلم دون أن يكون لذلك التحول نتائج خطيرة مزلزلة ، أو نتصور بأن حياته سارت بهدوء أو يسر حتى ولو كان ممثلًا بارعًا يؤدى دورًا لا صلة له بواقع الأمر .
فنحن بإزاء رجل متمرد متشكك لم يتورع عن الانقلاب على نفسه مرة بعد مرة ، وليس من حق الدارس أن يتحاشى النظر فى أوجه القلق والتقلب الانفعالي، وفيما ترتب على ذلك من مشكلات حقيقية شائكة .
هانحن نتعرض الى الصورة الأكثر حيوية ونشاطًا لذلك “المفكر القلق ” الذى لم يحقق الاستقرار إلا فى مرحلة متاخرة من حياته ، ولم يكن الاستقرار عندئذٍ إلا نسبيًا.
والواقع أن “طه حسين ” ظل طيلة حياته ككاتب يحاول أن يوفق أو يؤلف بين عدة ثنائيات أو مناقضات ، وقد يفيدنا القول هنا أن نتوقع محاولاته – هذه – كانت إصرارا على مواجهة أعراض أضطرابات القلق الحاد بمفهومنا الإكلينكي ، والتي – وبدون شك -لم يكن لديه علم بها حينذاك .
وقد يكون من الأهمية أن نتعرف على الأعراض المضطربة التي يتعرض لها مرضى القلق بشكل عام، ويحدثنا علماء النفس عن القلق : هو حالة وجدانية غير سارة تتسم بالخوف والتوجس وتوقع الأخطار والكوارث ، وليس – بالضرورة – أن تكون هذه الأخطار حقيقية بل يكفى أن يراها الفرد كذلك . والقلق خبرة بشرية عامة عانى ويعانى منها كل فرد دون استثناء . وما يميز المرضى بالقلق عن الأفراد العاديين هو أن هؤلاء المرضى يختبرون مواقف القلق فى غالبية الوقت ، ويختبرونه بدرجات أشد من الآخرين ، وبالرغم من أن بعض الناس قد يتصور أن القلق علامة على المرض فإن هذا غير صحيح لأن هناك حالات من القلق المحمود الذى يدفع الإنسان إلى النشاط والإعداد للمستقبل ومواجهة الأخطار الفعلية ومثل هذا النوع من القلق يختلف عما يسمى بالقلق العصابي أو القلق المرضى.
ولدينا هنا مصطلحان يجب توضيحهما؛ وهم ما هو القلق المرضى ؟ ؛ وماذا نعنى بمصطلح العصابى أو العصاب ؟
فالقلق المرضى : حالة من التوترات الشديدة يصاب بها الفرد ويصاحبها مجموعة من الأعراض وتغيرات تمس الأركان الرئيسة الثلاثة لشخصية الإنسان أى الجانب العضوي – العضلي ، وجانب الوجدان أو الإحساس أو الشعور ، ثم جانب التفكير .
فمن الناحية العضوية العضلية تحدث فى حالة القلق تغيرات غير سارة يرى العلماء أنها نتيجة للاستثارة الشديدة التى تحدث فيما يسمى بالجهاز العصبى السمبثاوي (الاستثارى) . وهو أحد الاجهزة الرئيسية التى تنشط فى مواقف الخطر والانفعال ، ويؤدى نشاطها إلى التأثير في الأعضاء المتصلة به، فتحجظ العيون أو تضيق ، وتعرق الايدى أو تبرد اطرافها ، وتتزايد دقات القلب وتتسارع ، وتنقبض الاوعية الدموية، وتستثار بعض الغدد كالغدد الدمعية فى حالات الحزن .. إلخ ؛ وهناك الجانب الوجداني أو الشعور : ويكون الشخص المتوتر فى حالة من الخوف والتوجس ، وعادة ما يدفع الخوف الشديد لإثارة التغيرات العضوية التى ما إن تحدث حتى يتزايد الخوف نتيجة لإضطراب هذه الوظائف والعجز عن التحكم فيها وضبطها ضبطًا ناضجا. فضيق التنفس مثلا بالرغم من انه قد يكون نتيجة مباشرة للشعور بالقلق ، قد يزيد من حدة القلق أكثر فأكثر بسبب خوف الشخص من الموت نتيجة للعجز عن التنفس ؛ ثم هناك جانب التفكير : والسمات الغالبة فى تفكير الشخص القلق تتخذ مظاهر منها : التوقعات السلبية للمستقبل ، فالشخص القلق يتوقع الشر ويتصيد الدلائل الواهيةعلى وقوع الكوارث والمصائب.
أما فيما يتعلق بمصطلح العصاب : فهو مصطلح جرى على استخدامه علماء النفس والأطباء النفسيون لوصف طائفة من الأمراض النفسية التى يتميز أصحابها بالانفعال الشديد، وعدم الاستقرار النفسى، والتقلب الانفعالي . وتسيطر على العصابين أعراض مرضية متنوعة منها الخوف والقلق، والأحزان النفسية ( الاكتئاب) ، والوساوس الفكرية .
إذن – يحق لنا أن نقول – ما كان يعانى منه “طه حسين ” هو هذا النوع من “القلق الحاد” الذى فرض وجوده وشعوره بالإحباط إزاء عاهته جاء على شكل وعي حاد بدأ منذ سنواته الأولى ولم يفارقه طيلة حياته بأنه و كأنه محجوب وراء ستار صفيق أو باب مغلق ، بيد أن الحاجز فى حالة طه لم يكن مجرد عائق يحول بينه وبين العالم؛ فقد كان يشعر أيضًا بأنه خطر حقيقى يهدد وجوده ذاته، وكان العمى ينطوى بالنسبة له على كل المخاطر التى تنجم عادة عن الاعتماد على الغير ، وكان أسوء هذه المخاطر أن يعامل معاملة الشئ . والأدهى من ذلك أن طه “بطل الأيام” كان ينتهي به الأمر أحيانًا الى الشك فى وجود العالم الخارجى بل وفى وجوده هو نفسه .
ولذلك كان التغلب على ذلك الحاجز مسألة حياة أو موت وهنا دوافعه القلقة كانت تسوقه إلى أن يجد لنفسه موطئ قدم فى العالم وإلا فقد نفسه ، ومن ثم اقترن هذا الوعى (التوتر) الحاد بذلك الحاجز الخانق بدافع لا يقل قوة إلى تخطيه .
ونجد عميد الادب العربي فى مواقف أخرى متماسكًا رغم كل شىء ولا يتقبل أن يستسلم لليأس نهائيًا بل أنه استمد من وجوده المهدد ذاته دافعًا قويًا الى العمل . وعلى الرغم من أنه كان إنسانًا متشائمًا كما روى نقلًا عن مؤنس طه حسين . فإن هذا التشاؤم لم يحل دون تفاؤله فى مجال العمل . فقد كان يعتقد أن النشاط هو العلاج الوحيد . ويقول فى هذا الصدد “لا أميل إلى أن يفكر الإنسان فى نفسه كثيرًا ؛ فالإنسان لا يستحق هذا التفكير ، وإنما الى أن يشغل الإنسان نفسه بالقراءة والحديث والعمل والاستمتاع بلذات الحياة التى أباحها الله والأخلاق”.
والحقيقة أن معاناة طه حسين من أعراض القلق النفسى قامت بدور أساسى ساعده على التصارع مع هذه المناقضات ومحاولاته التى تمخضت عن طرق مختلفة فى التأليف أو التوفيق ، فما من ثنائية من الثنائيات التى واجهته إلا ووجدت لدى “طه” صيغًا متعددة للمصالحة . ومثال ذلك أنه لم يقنع قط بطريقة واحدة للمصالحة بين العلم والإيمان ، والأمر نفسه يصدق على المصالحة بين الشرق والغرب فى وحدة إنسانية جامعة رائعة ، بذلك يؤكد لنا محاولاته فى معالجة التوفيق بين الصيغ المناقضة هذه .
و نخلص الى أن ذلك ” القلق الحاد والمحمود” الذى تملكه فى تجاربه المتعددة فى طلب الاستقرار واليقين – كانت هى السمة التى تميز بها عميد الأدب العربى وتكشف عن جوهره .