عبد الرازق عكاشة يروي باريس بالألوان: معرض يختصر المدينة في ذاكرة وظل

صورة واتساب بتاريخ 1447 04 09 في 12.16.32 248df1f5

عبد الرازق عكاشة يروي باريس بالألوان: معرض يختصر المدينة في ذاكرة وظل

بقلم الدكتور/ حسين عبد البصير- مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية 


صورة واتساب بتاريخ 1447 02 14 في 01.12.27 c7a8d493 Copy

 

يُعدّ الفنان التشكيلي الكبير عبد الرازق عكاشة أحد أبرز الأسماء في الفن المصري المعاصر، وقد عُرف عنه شغفه بالمكان كموضوع فني، ورغبته في تحويل المدن إلى حكايات بصرية تتجاوز حدود الجغرافيا لتدخل في حيز التأمل والذاكرة. عاش عكاشة بين القاهرة وباريس سنوات طويلة، فامتلأت تجربته بحوار داخلي مستمر بين الشرق والغرب، بين ضوء النيل وضباب السين، بين صخب القاهرة وهدوء الأزقة الباريسية.

في معرضه الأخير “حكايات من باريس” الذي تستضيفه قاعة بيكاسو بالزمالك، يقدّم عكاشة خلاصة هذه التجربة في مجموعة من اللوحات التي تمزج بين الأكاديمية الأوروبية والروح الشرقية، لتخلق مشهدًا بصريًا ثريًا يروي باريس كما لم نرها من قبل. المعرض ليس مجرد توثيق بصري للمدينة، بل هو كتابة شعرية بالألوان والظلال، حيث تتحول باريس إلى مرآة للروح ودفتر يوميات شخصي.

 

هندسة الحكاية: تكوين اللوحة كخريطة للمدينة

يقوم معظم لوحات عكاشة على بناء تكويني هندسي دقيق، يقسم السطح إلى مستويات متوازنة تجعل عين المشاهد تتحرك ببطء عبر المشهد:

• الخطوط الأفقية المتمثلة في الأماكن الباريسية والشوارع الشهيرة تمنح اللوحة ثباتًا وطمأنينة.

• الخطوط العمودية – الأعمدة، الواجهات، أو أجساد المارة – تضيف إيقاعًا متكررًا أشبه بنبض قلب المدينة.

• يضع الفنان غالبًا نقطة ارتكاز واضحة: مكان، وشارع، أو شخص متوقف عن الحركة، لتكون بداية الرحلة البصرية للمشاهد.

يذكّر هذا التكوين بتقاليد الرسم الكلاسيكي لكنه في الوقت نفسه مفتوح على العفوية والتعبيرية والارتجال، بما يليق بمشهد مدينة نابضة بالحياة.

 

اللون كقصيدة: دفء الشرق وبرودة الغرب

اللون عند عكاشة ليس مجرد أداة للتزيين، بل هو القصيدة التي تُروى بها الحكاية:

• الأصفر والبرتقالي يشعّان دفئًا شرقيًا يجعل اللوحة وكأنها تضيء من الداخل.

• الأزرق والبنفسجي يضيفان بعدًا تأمليًا حزينًا أحيانًا، وكأنهما يسجلان حنين الفنان وغربته.

• التباين اللوني بين الألوان الحارة والباردة يخلق توترًا بصريًا يقود العين بين مناطق السكون ومناطق الحركة.

هكذا تتحول كل لوحة إلى نص شعري بصري، يبدأ بحرف من الأزرق وينتهي بنقطة من البرتقالي.

 

الظل كتوقيع: حين تصبح اللحظة أطول من الوقت

من أجمل ما يميز المعرض معالجة الفنان للظل بوصفه أكثر من مجرد إسقاط ضوئي:

• الظلال الطويلة تحدد وقتًا معينًا من اليوم، فتمنح اللوحة دلالة زمنية وتدخل المشاهد في لحظة حميمة.

• تجعل الشخصيات تمتد خارج حدود اللوحة، وكأنها تتجاوز الإطار لتشاركنا وجودنا.

• يكون أحيانًا الظل أطول من الجسم نفسه، في إشارة إلى أن الذاكرة أطول عمرًا من الواقع.

هنا تتحول باريس إلى كائن حيّ، يمد ظلاله ويتنفس معنا.

 

فراغات تتنفس: الصمت البصري كمساحة للتأمل

يمنح عكاشة مساحة واسعة للفراغ داخل لوحاته، سواء كان سماءً صافية أو أرضية شارع ممتدة. هذا الفراغ ليس خاليًا بل ممتلئ بإمكانية التأمل، ويخلق إيقاعًا بصريًا بطيئًا يسمح للمشاهد بأن يشارك في استكمال الحكاية بعينه الداخلية.

إنه صمت بصري مقصود يتيح للمشهد أن يهمس بدلاً من أن يصرخ، ويجعلنا نرى الجمال في الأشياء البسيطة: ظل عابر، ومقعد، أو انعكاس ضوء.

 

باريس كمرآة: المدينة بوصفها سؤالاً وجوديًا

على المستوى الفلسفي، يقترح المعرض أن باريس ليست مكانًا فحسب بل حالة شعورية. كل لوحة تطرح سؤالاً عن الهوية والانتماء:

هل يمكن للفنان أن يكون مصريًا في باريس، وفرنسيًا في القاهرة؟ هل تتحول المدن إلى مرايا تكشف ملامح الروح أكثر مما تكشف معالمها؟

لوحات عكاشة تدعونا للاحتفاء بالمشهد اليومي العابر: ظل شخص، وصوت موسيقي بعيد، أو مكان خارجي أو داخلي، لتتحول هذه التفاصيل إلى قصيدة بصرية عن معنى الحياة.

 

خاتمة نقدية ورؤية شخصية

يؤكد معرض “حكايات من باريس” أن عبد الرازق عكاشة قد بلغ مرحلة نضج فني تجعله قادرًا على تقديم مدينة كاملة على هيئة مرآة تعكس ذاته ومزاجه، وتدعونا نحن المتلقين إلى أن نرى باريس كما لم نرها من قبل. تقنيًا، المعرض درس متكامل في توظيف التكوين، واللون، والظل لصياغة سردية بصرية متماسكة، وفكريًا هو بيان إنساني مفتوح عن الغربة والحنين والانتماء.

بوصفي متابعًا للحركة التشكيلية المصرية، أرى أن هذا المعرض يشكل علامة مهمة في الفن المصري المعاصر؛ فهو لا يخاطب جمهور النخبة فقط، بل يفتح الباب لجمهور أوسع كي يكتشف جماليات اللون والفضاء والمعنى. الفنان الكبير عبد الرازق عكاشة في هذا المعرض يقدم لنا دعوة صادقة إلى أن نبطئ، وأن ننظر، وأن نتأمل، وأن نحتفل بالمشهد العابر قبل أن يختفي في ضجيج الزمن.

 

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *