علاج القلق

WhatsApp Image 2024 12 26 at 22.05.32 bafcb67f

معاناتي مع القلق

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم- استشاري نفسي 

WhatsApp Image 2024 11 14 at 14.44.58 03be108d



أقبل شاب في الثالثة والثلاثين من العمر إلى عيادتنا النفسية، يعمل مهندسًا بإحدى الشركات المعروفة. بدا على وجهه الشحوب والتعب، تحيط بعينيه هالات سوداء وبعض التجعدات الخفيفة حول العينين. كان من الواضح أن هذه التجعدات ليست من تأثير التقدم في العمر بقدر ما كانت نتيجة للحالة النفسية التي تتملكه. بدأ حديثه قائلاً: إنني لا أنام، وأظلّ طوال الليل أتقلب في سريري. وعندما يأتي الصباح، أجد صداعًا حادًا وطنينًا من أثر إرهاق الليل والسهر. وما إن تمر ساعات قليلة من اليوم حتى يتزايد التعب والإعياء لدرجة أنني قد أنام على مكتبي. واستطرد قائلاً: إنني لا أدري ما ألم بي. أشعر بالاختناق وضيق التنفس طوال الوقت. وقد ذهبت إلى المستشفى خوفًا من أن يكون في قلبي مرض، إلا أن الطبيب هناك أبلغني بأن قلبي سليم ولا بأس به، وأن مشكلتي نفسية خالصة، وأنها ستتحسن بمرور الزمن، ونصحني بأخذ إجازة. ولكن حالتي لا زالت كما هي، وأخاف أن آخذ إجازة لأنني لا أعرف كيف سأقضيها.


كان واضحًا أن هذا الشاب يعاني من حالة قلق شديدة بدأت آثارها تشمل الجسم (شعور بالاختناق وضيق تنفس) فضلاً عن الإحساس بالاضطراب والخوف غير محدد المصدر، وبدأ ذعره يتزايد مؤخرًا. وبعد محاولتنا للبحث عن الظروف الاجتماعية التي مر بها هذا الشاب حديثًا، تبين أنه أعزب وانتقل للعمل في أحد أقسام الشركة ولم يكن على دراية كافية بما هو مطلوب منه في إنجازه لعمله، وأنه تعرف على فتاة من صديقات أخته وأسرع بخطوبتها واتفق معها على أن يتم الزواج خلال فترة قصيرة. ولكنه تلقى منها رسالة تفيد برغبتها في إنهاء الخطوبة. لقد أوضح أنه استلم الرسالة في عمله، وما أن عرف محتواها حتى أصبح كالتائه. في نهاية اليوم وعندما أوى إلى فراشه، كان من الصعب عليه أن يسترخي أو ينام، وقام في منتصف الليل وهو يعاني من دوار شديد، وأخذ العرق البارد يتصبب منه، كان قلبه يدق بعنف، ووجد صعوبة في التنفس العميق. وجد خوفه يتزايد مع ارتعاشات في الجسم والأطراف. وفي هذه الأثناء تذكر الأفكار التي سيطرت عليه: أنه وحيد وضائع. وتذكر أيضًا مشاعره هذه الليلة كانت خليطًا من الغضب والغيظ، والشعور بالامتهان، والخوف من مواجهة الأهل والأصدقاء. وأضاف وهو يصف لنا أعراضه ومخاوفه: لقد فكرت في اليوم التالي أن أذهب إلى المستشفى، لكنني كنت أعلم أنني تحت رحمة نوبة من القلق الشديد الحاد. وها أنا هنا، وبعد أن مضى على هذا الحادث أكثر من ستة أشهر، وبالرغم من أنني أعرف أن تصرفي مبالغ فيه ومزعج، ولكنه أمر ليس في استطاعتي أن أتجنبه.


ذكرنا هذه الحالة لأن الأعراض التي جاء بها هذا الشاب تعتبر نموذجًا واضحًا للتغيرات التي تصيب الناس في حالات القلق والذعر. وهي تغيرات تمس أركان رئيسية ثلاثة في شخصية الإنسان وهي: الجانب العضوي- العضلي، وجانب الإحساس والشعور، ثم جانب التفكير.



تأتي أهمية التعرف على أنواع العلاجات المستخدمة التي يلجأ إليها مرضى القلق من هنا، فهناك أنواع مختلفة من القلق النفسي ويتطلب علاجها أيضًا علاجات نفسية متعددة منها العلاج بالعقاقير الطبية والعلاج النفسي السلوكي – المعرفي.



قد يلجأ مريض القلق إلى استخدام الأدوية أو العقاقير الطبية في علاج القلق، وقد تختلف استجابة المريض للأدوية باختلاف الشخص ونوع القلق. لذا، يحذر الكثير من الأطباء النفسيين من الاعتماد عليها إلا إذا كانت هناك ضرورة لاستخدامها في بعض مراحل علاج القلق، وذلك لاعتبارها سلاحًا ذا حدين. فالأدوية من ناحية تخفف من الأعراض وتمنح القلقين فرصة، ولو مؤقتة، للراحة والسلام النفسي، ولكنها – من ناحية أخرى – تؤدي إلى نتائج جانبية غير مرغوبة وخطيرة. ولهذا، فإن استخدام العقاقير يتطلب مهارة شديدة في كيفية استخدامها لتجنب آثارها الجانبية الخطيرة.



تأتي أهمية استخدام العلاجات النفسية السلوكية – المعرفية لما لها من فوائد أكيدة في علاج القلق من هنا. فمن الهام معرفة أن الأدوية لن تعالج الأعراض التي تظهر على مريض القلق والتي تتطلب تعلمه كيف يغير سلوكه وكيف يتعامل مع المشكلات المرتبطة بآثار القلق والاضطراب لديه داخل الأسرة أو خارجها. فالعقاقير الطبية لا تعلمنا أو تدربنا على المهارات التي من شأنها أن تيسر ممارسة حياتنا بطريقة سهلة وفعالة.


العلاجات السلوكية النفسية


تُعد العلاجات السلوكية النفسية بمثابة الثورة المعاصرة التي قدمها علم النفس خلال العشرين عامًا الماضية في مجال العلاج النفسي. من الضروري فهم أن تطور هذه الأساليب العلاجية ومناهجها قد خضع للتطوير ليشمل علاج القلق، حيث تظهر نتائجها فاعليتها ونجاحها في علاج العديد من الأعراض والآلام النفسية المرتبطة بالقلق.


دعونا نركز على أهم محاور العلاج النفسي السلوكي-المعرفي في علاج القلق:


1. المواقف المثيرة للقلق:

    – مثل الامتحانات، اللقاءات الهامة، المواجهات الاجتماعية الحاسمة، والمستقبل غير الواضح الذي يتسم بالتهديد.

   

2. التغيرات الانفعالية غير السارة:

    – التي تصاحب تعرض الشخص لهذه المواقف، وتأخذ أحيانًا شكل تغيرات عضوية مثل تسارع دقات القلب، الغثيان، انقباض المعدة، صعوبات التنفس، توتر عضلات الوجه، تصلب عضلات الظهر، وازدياد “اللازمات” الحركية في الوجه أو اليدين.

    

3. الجوانب الذهنية والفكرية:

    – مجموعة الأفكار والحجج والمعتقدات التي يخاطب الشخص بها نفسه خلال مواجهته للمواقف. في حالات القلق، تتسم هذه المعتقدات بالمبالغة وإدراك مخاطر لا أساس لها، مما أدى إلى وصف الكثير من المعالجين النفسيين لفكر الشخص في حالات القلق بأنه غير منطقي وغير عقلاني.

    

4. المظهر أو السلوك الاجتماعي:

    – وصف الشخص القلق في تفاعلاته اليومية كالخجل، الانزواء، التردد، وتجنب الآخرين.



بما أن هذه المحاور تتوافق في إبراز القلق وتعميقه وتطوره في الشخصية، فإن المواجهة الفعالة للتوتر النفسي وعلاج القلقين يجب أن تعكس هذه الرؤية المتنوعة. لذا، تتجه الجهود نحو معالجة كل جانب من هذه الجوانب الأربعة معًا أو على حدة.


قد يضطر المعالج في بعض الحالات إلى تركيز العلاج على أحد هذه الجوانب أكثر من الأخرى، خاصة عندما تكون بعض المواقف الخارجية شديدة التهديد والامتهان، مما يؤدي تلقائيًا إلى إثارة الجانب الانفعالي أو الذهني أو الاجتماعي. في مثل هذه الحالات، يجب توجيه جهد أكبر لعلاج الجانب المضطرب قبل الجوانب الأخرى، وقد يتطلب الأمر الانتباه إلى الجوانب الأخرى من الشخصية، بما في ذلك تدريب الشخص على السلوك الاجتماعي المرن والفعال، وتعويده تدريجيًا على ضبط انفعالاته وقدراته على تحمل الصعاب.


خلاصة القول إذن


إذا كان القلق يعبر عن نفسه بلغات أربع متعددة، فإن من المنطقي أن يكون العلاج النفسي الفعال هو ذلك الذي يستطيع مخاطبة هذه الجوانب الأربعة والتعديل فيها، لتشمل جميع هذه الجوانب وحتى تأتي بنتائج فعالة وناجحة في علاج العديد من حالات القلق والتوتر النفسي. إذن فهو علاج متعدد الأبعاد والمحاور، لأن بنيته الأساسية هي معالجة الاضطرابات النفسية في جوانبها الاجتماعية والانفعالية والسلوكية، وكذلك مصادر التهديد الخارجية مجتمعة.



لغة الصحة النفسية


نعلم جميعًا أن لغة الصحة النفسية ترتكز على أسس عملية وعلمية سليمة. ولهذا نعطي لمحة سريعة عن بعض المناهج السلوكية المستخدمة في هذا السياق مثل:



1. المواجهة والتجرؤ وليس الانسحاب والهروب:

   

   غالبية الأشخاص القلقين يستجيبون بمحاولات انسحابية وهروبية، وبذلك يتجنبون مواقف القلق أو التي تكون مصدرًا للقلق والانزعاج، ويسمى السلوك “التجنبي” الهروبي. وهذا خطأ كبير من حيث لغة الصحة النفسية. ولهذا، يُعتبر ما يسمى بطريقة “التعويد” (Habituation) التي تُستخدم حاليًا في العلاج السلوكي، من أنجح الفنيات والأساليب العلاجية للقلق، حيث يتم تشجيع الشخص العصابي على مواجهة مواقف القلق حتى تتحيز مشاعره نحو هذه المواقف وتتناقص استجاباته الانفعالية المتطرفة نحوها.


2. الاسترخاء العضلي:


   عادة ما يُستخدم أسلوب آخر مصاحب للتعرض التدريجي وهو الاسترخاء العضلي (ويقصد بالاسترخاء هنا هو المحافظة على عضلات الجسم في وضع هادئ-سلبي، وبالتقليل المتعمد من النشاط في أعضاء الجسم). بتعلم الشخص أسلوب الاسترخاء التدريجي لعضلات الجسم عضوًا فعضوًا، يمكن له التخفيف من التوترات النفسية والقلق. ولهذا نجد أن مجرد الاسترخاء العادي بالاستلقاء على أريكة، والجلوس في مكان هادئ مريح قد يؤدي إلى آثار وتغيرات انفعالية ملطفة.


3. تصحيح المعتقدات الخاطئة والأفكار اللامنطقية:


   لاحظ المعالجون أن التوترات النفسية والقلق لا يمكن عزلهما عن الطريقة التي يفكر بها الشخص عن نفسه وعن المواقف التي يتفاعل معها من آراء ومعتقدات. فالقلق العصابي يعتبر نتيجة مباشرة للطريقة التي يفكر بها الشخص في نفسه وفي الخارج، وليس بالضرورة لخصائص خارجية مهددة. وجد أن الشخص العصابي القلق عادة يكون من النوع الذي يتميز تفكيره بالمبالغة، وتوقع الخطر والانهيار والكوارث. لعلاج هذه الجوانب، يتجه الاهتمام إلى تشجيع الشخص على التفكير بواقعية في تلك المواقف وفي نفسه وفي إمكانياته. ولهذا يُستخدم منهج يعتمد على تعديل محتوى ما يقوله الشخص لنفسه في المواقف التي يراها مهددة لنفسه وأمنه وفق ثلاث قواعد رئيسية:


   – القناعة الأولى: إقناع نفسك بأن الخوف الذي يسيطر على مشاعرك عند التفكير في ما قد يحدث من أشياء سيئة، لن يحوِّل الموقف إلى أسوأ مما هو عليه بالفعل بتفكيرك المبالغ فيه وتهويلاتك.

   

   – القناعة الثانية: إقناع النفس بشتى الوسائل الممكنة بأن الموقف الذي يثير مخاوفك الآن سينتهي حتمًا.

   

   – القناعة الثالثة: تقبَّل حقيقة أن التخلص من كل المشاعر المزعجة والتوترات المرتبطة بالقلق تمامًا أمر صعب. إذ لا بد أن نقبل بعض جوانب التوتر مؤقتًا.


4. التعبير عن المشاعر بحرية


   من المعروف أن سلوك الشخص العصابي القلق يتسم بقيود انفعالية تكبِّل تلقائيته وحريته في مواجهة مواقف الخوف أو المهددة بالإحباط. لهذا، يتم تدريبهم على التعبير عن مشاعرهم بحرية من خلال التصرفات السلوكية والاجتماعية الملائمة، مما يؤدي إلى تضاؤل القلق بشكل ملحوظ. يحظى هذا الجانب باهتمام كثير من المعالجين وهم يقومون بتدريب مرضاهم على الحرية الانفعالية. يعتمد هذا المنهج على فنية تسمى “تأكيد الذات” أو تدريب القدرة التوكيدية، وقوامها تدريب النفس على التعرض للمواقف الاجتماعية المثيرة للخوف والقلق والانفعال، مع معرفة الشخص مسبقًا ما الذي سيقوله في هذه المواقف، وكيف يتصرف خلالها، وإدراكه لحقوقه والتزاماته. من شأن ذلك أن يجعل الشخص أكثر هدوءًا وقدرة على التحكم في انفعالاته عند مواجهتها والظهور بالمظهر اللائق والملائم.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ar Arabic