
*قراءة قصيدة "القصيدة التي أخجلَها العجزُ" لعبير خالد يحيى
بقلم الكاتبة / ريما آل كلزلي

النص الذي بين أيدينا نص شعري يصور مأساة غزة بلغة رمزية مكثفة وأسلوب عاطفي مؤثر، يُبرز بشكل واضح فكرة العجز الإنساني أمام مأساة غزة، سواء في تعامل العالم معها أو في تعبير الشعر عن مأساتها.
تتردد الكلمات في نص الشاعرة عبير يحيى بين المعنى والصدى، فتكاد الرؤية تنطفئ في عتمة القصيدة. ولاريب أن هذا النص مرآة تعكس وجه الحطام.
العنوان “القصيدة التي أخجلَها العجزُ” يحمل في ذاته تضادًا دلاليًا بين الشعر الذي يُفترض أن يكون قمة التعبير والقوة، والعجز الذي يُشير إلى الضعف والانكسار. هذا التناقض يفتح أفق النص على تجربة وجودية تتعلق بالخذلان الإنساني، وهو ما ينعكس بقوة في متن القصيدة. ويوحي بإضمارٍ مقصود، حيث يجعل القارئ يتساءل: كيف يمكن للقصيدة أن تخجل؟ وما الذي يجعلها عاجزة؟ ولكن ، يأتي هذا العجز متساوقًا مع أجواء الهزيمة والإبادة ليحمل دلالة ضمنية مفتوحة للتأويل.
تستهل الشاعرة نصها بقول:
“هي
بُؤبُؤُ المعنى حين يُغمضُهُ العالمُ
كأنّ البصيرةَ ضوءٌ يُطفأُ عند المساء”
هي بؤبؤ المعنى… كأن البصيرة تترنح بين الضوء والظلام، وكأن الحقيقة تُطفأ عند المساء. ولاريب أن هذه الصور تخطّ على جدار الألم خريطةً للغياب.
ينهض النص على لغة شعرية مكثفة، تتسم بالصور المتدفقة والاستعارات التي تعكس مأساة غزة، “مدينةٌ… تُنادي بلغةِ الحطام،
تخيطُ تراتيلها بإبرِ الشظايا،
وتنقشُ أسماءَ موتاها
على ظهرِ الريح.”
أما تقسيم النص إلى مشاهد متعددة، فكل منها يمثل جزءًا من لوحة مأساوية.
استخدم المشهد الأول الأفعال استخدامًا قويًا والصور الحسية كذلك وصور غزة كمدينة “تُخيط تراتيلها بإبر الشظايا”، وهنا تبرز المفارقة بين فعل الخياطة (عادةً فعل بناء وخلق) والشظايا (رمز الدمار). هذه المدينة تُخيط بأصابعها تراتيل من شظايا الألم، وتترك أسماء موتاها تتناثر على ظهر الريح. ولاريب أن صوتها يعلو فوق صمت الجهات.
تنتقل الشاعرة إلى المشهد الثاني: غزة الطفلة التي “تُرضِع الملح”، وهو تصوير عبقري يجمع بين براءة الطفولة وقسوة الواقع، بهذه الصورة تعمّق الشعور بالأسى.
“غزّةُ…
طفلةٌ تُرضِعُ الملحَ لدمى الطين،
تُهدهدُ صراخها بأغنيةٍ مشقوقةٍ من خاصرةِ المدى،
وتنامُ…
ليحلمَ عنها الحجر.”
غزّةُ…تهدهد صراخها بأغنيةٍ مشقوقةٍ من خاصرة الزمن. تنام لتحلم عنها الحجارة. ولاريب أن الحجر نفسه قد صار شاهدًا على أحلامٍ لا تنتهي.
المشهد الثالث: خذلان العالم الذي “أعطى ظهره للبوصلة”، وتظهر فيه صورة العالم ككيان أعمى وأصم أمام المأساة.
في هذا المقطع تم استدعاء الزمن ودائرية المأساة، فقد جعلت الشاعرة حضور الزمن كعنصر ثابت في مأساة غزة. الزمن لم يعُد مجرد امتداد طبيعي للأحداث، بل يصبح دائرة مغلقة من الألم والخذلان، كما في قولها:
“كلّ الجهاتِ غابت،
“أعطتْ ظهرَها للبوصلة”. كما أن الإحساس بالدائرية يعمّق الشعور بالعجز والجمود، ويجعل الزمن عدوًا إضافيًا إلى جانب القهر البشري.
“وكأنَّ العالمَ..
أغلقَ النشرةَ،
ونامَ على جُفنِ الإبادة.”
ينقسم النص بين خطاب الذات الجماعية (نحن) وخطاب الذات الفردية (غزة)، مثل:
“ونحنُ..
كتبنا عنكِ
بالمدادِ الذي سالَ من العجز،
زيّنا حروفَ القصائدِ
بورودٍ ذابلةٍ من خجلِ النسيان،
وغنّينا لكِ..
من خلفِ الزجاجِ المُحكمِ بالهزيمة.”
تصور الشاعرة حالة العجز الجماعي عندما يتوجه الخطاب إلى غزة كفرد.
هذا التداخل يعكس حالة من التردد بين المسؤولية الجماعية والفردية.
تحضر رمزية “الحجر” في النص تجعله حاملًا لحلم غزة حين تنام الطفلة، وكأنه رمز المقاومة الصامتة.
و”غزة كطفلة “رمز البراءة المغتصبة، بينما “الدمى الطينية” تبين هشاشة الحياة في ظل الدمار.
تشبيه العالم “كأعور في قاعة المرايا” هي صورة مبتكرة ومشحونة بالدلالة، تشير إلى انعدام العدالة والنظر القاصر لحقيقة المجازر.
بينما نغمة اختزال وحذف تشير إليها النقاط الموضوعة بهدف التكثيف وتعميق الإحساس.
المشهد الأخير:
“غزّة…
أنتِ الوحيُ الذي أنكرناه،
والدمُ الذي ارتدّ إلى حناجرنا،
أنتِ الحكايةُ
التي تمشي بلا راوٍ،
بلا منفى،
بلا موعدٍ للقيامة.”
جاءت العبارة الأخيرة في المقطع “بلا منفى…”مكتنزة بالمعنى الدال على
الضياع الوجودي والانفصال عن الزمن والأمل، فهي تعبر عن حالة من التيه وانعدام الوجهة، إذ لا توجد نقطة استقرار (المنفى كرمز للمأوى حتى في الغربة)، ولا انتظار لحدث مفصلي يعيد ترتيب المعايير (موعد القيامة كرمز للخلاص أو الحساب)، فتصور حالة من فقدان الاتزان الكلي، ليصبح الزمن فارغًا من أي دلالة، وتتلاشى حدود المعنى، تُغرق الإنسان في حالة من اللاجدوى.
استخدمت الشاعرة عبير يحيى التكرار (غزة…) ليعكس إلحاح القضية ومحوريتها، التكرار كاستمرارية في النص، أكثر من مجرد وسيلة بلاغية، بل وسيلة لتثبيت مأساة غزة في ذهن القارئ.
النص ينتهي بفكرة الأمل الغائب الذي يختبئ في قلب الركام:
“في قلبِ كلِّ ركام،
ينامُ برقٌ صغير،
ينتظرُ طفلًا..
يكتبُ اسمه على جدارٍ لم يُقصف بعد.”
هذه النهاية تفتح النص على احتمالات المستقبل، وتحمل بذرة أمل خافتة، لكنها لا تخفي مرارة الحاضر، حيث الأمل يبدو واهنًا لكنه مستمر.
أسلوب الخطاب في النص، يخاطب غزة مباشرة، وبذلك يعزز الطابع العاطفي والإنساني، ويخلق علاقة حميمية بين الشاعرة والموضوع.
نص “القصيدة التي أخجلَها العجزُ” هو نصٌ مكتنز بالرموز والدلالات، يتناول مأساة غزة بأسلوب شعري مكثف ومؤثر. والشاعرة عبير خالد يحيى استطاعت أن تنسج قصيدة تحمل في طياتها ثقل الألم الإنساني والخذلان الجماعي، مع بصيص أمل خافت في نهايتها، لتُظهر وعيًا عميقًا بفكرة الزمن ودائرية المأساة، وتُحسن توظيف الصور الشعرية والرموز لتقديم لوحة متكاملة عن الواقع الفلسطيني.