
ما الذي يجعل أغنيةً واحدةً كفيلةً بأن تقلب العمر صفحةً بعد صفحة؟
بقلم الأستاذة/ ذكرى زيد

ما الذي يجعل رجلاً على مشارف الخمسين يبكي كلّما مرّت نغمةٌ قديمةٌ على صدره، كنسمةٍ تُحرّك رمادًا لم ينطفئ؟
ليست الموسيقى وحدها من تحفظ الوجع، بل القلوب التي صدّقت يومًا أنّ الحب إذا كان صادقًا فهو يكفي… لكنه لم يكن يكفي.
حدّثني عن حبّه كمن يُخرج قلبه من صدره ويضعه على الطاولة دون أن يخشى أن يُكسر.
قال: كنتُ في التاسعة عشرة حين أهديتُ جارَتنا أغنيةً أحببتُها كما يحبّ الفتيان أوّل مرّة، وأخلصتُ كما لا يُخلص الرجال في نهاياتهم.
سكنت قلبي كما يسكن الضوءُ نوافذَ البيوتِ القديمة، دون إذنٍ، دون جلبةٍ. لكنّ الأيام أقفلت الباب، والفقر طرقه على طريقته.
تزوّجَت ومضت، وبقيتُ أنا أسمّي ابنتي باسمها، وأُخفيها في ثنايا الأغاني.
قال: وحدي كنتُ وما زلتُ.
أسمع الأغنية كلّ ليلةٍ كأنّها نداءٌ من زمنٍ لم يُمهلني، وأبكي لا على الفقد، بل على كلّ احتمالٍ دفنّاه بأيدينا.
كنتُ أرجوها نصيبًا، فخذلتني الدنيا، ولم يخذلني قلبي.
صارت لي ذكرى، ولم أعد لها شيئًا.
كلّما روى حكايته شعرتُ أنّ الوجع إذا طالت صحبته يصير رفيقًا لا يُغادر، وأنّ الحنين إذا استوطن القلب لا يشيخ.
في صوته انكسارُ الذين أحبّوا ولم يكونوا أنانيين،
وفي صمته نداءٌ يشبه الدعاءَ ألّا يبتلي الله فتىً بعشقٍ لا يُكتب له الاكتمال.
ولأنّني أنا التي تُدعى “ذِكرى”، لا أكتب هذا من باب التسلية، بل من مقام الوفاء، أقول:
سلامٌ على من أحبّ ولم يبوح،
على من انتظر ولم يُنصفه القدر،
على من صمت دهورًا ثم تكلّمت عنه الأغاني.
وسلامٌ على كلّ قلبٍ احتفظ باسمٍ في ابنته، وبصوتٍ في ذاكرته، وبحياةٍ كاملة داخل لحنٍ لا يتجاوز دقيقتين.
ليس كلّ حبّ يُنسى،ولا كلّ وداعٍ يُشفى منه الزمن،
فبعض الحكايات لا تنتهي… بل تسكننا، وتعيد صياغة أعمارنا دون أن تُغادر فعلًا.