ما بعد الطلاق

ما بعد الطلاق

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم- استشاري نفسي 


جاءتني قلقة وحائرة وقالت: أنا على شفا الجنون من كثرة انفعالاتي المرتبكة والمزعجة، لا أستطيع التركيز على شيء، حتى في عملي الذي كنت متميزة فيه. صمتت لتهدأ أنفاسها المتلاحقة لبعض الثواني ثم بدأت تصف ما تشعر به، وقالت:

أنا حاليًا زوجة للمرة الثانية، ارتبطت بزوج كنت أتمنى لو قابلته قبل تورطي في زواجي السابق. لم يكن بيني وبين زوجي الأول أي تفاهم ، و قد أثمرت زيجتي الأولى ابنًا جميلًا ، يعيش الآن مع والده وزوجته الثانية وذلك لرفض زوجي السابق أن يتركه معي .


ولله الحمد فقد قابلت زوجي الحالي، وهو زوج رائع، متفهم، ومسؤول.  كنت محظوظة أن ألتقي به، وكما قلت في البداية، تمنيت لو كنت قابلته قبل زواجي الأول.


تدخلت وسألت: إذن ما هي المشكلة؟


قالت بحيرة وكأنها تراجع نفسها وتفكر… 

زوجي الثاني لديه ثلاثة أبناء من زوجته السابقة ويرى أن مسؤوليته الكبرى والأساسية هي تربية أبنائه بنفسه، وأن يكونوا معنا في منزلنا. وقد كانت من أهم نقاط الاتفاق التي جعلتنا نرتبط ونتزوج سريعًا هو خلق وإعداد منزل مناسب لأبنائه واستقرارهم معنا.


صمتت بعض الوقت وأكملت حديثها: كنا في قمة السعادة وتوقعاتنا كانت متفائلة وإيجابية، لم يكن لدي في بداية حياتنا معًا ومع أطفاله أي اعتراضات. بل كنت أعطي وقتي بكل اهتمام وتعاون من جانبي للتغلب على أي مشاكل تزعجنا أو تزعج الأبناء معنا، وبذلت كل جهدي مع زوجي في رعايته للأبناء الثلاثة في منزلنا وكنت سعيدة بهذا الأمر كثيرًا.


بصراحة، بدأت المشاكل تظهر وتحولت حياتنا تدريجيًا إلى مشاكل لا تنتهي بسبب تدخلات زوجته الأولى في حياتنا. في البداية، كانت بحجة حرصها واهتمامها بما يحتاجه أبناؤها، فهي الأم الحقيقية والبيولوجية لهم. ولأنها أمهم، فهي لها الكلمة الأولى والأخيرة فيما يجب أن تفعله لأبنائها، سواء بحضورها الدائم إلى منزلي أو إعطاء النصائح وفرض الطلبات عليهم، وكذلك الاتصالات الهاتفية التي لا تتوقف نهارًا أو ليلًا. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبحت ضيفًا دائمًا تعيش معنا دون دعوة منا، فهي تعتبر وجودها أساسيًا لمساعدة الأبناء على التكيف مع حياتهم الجديدة في منزلنا، وغيرها من أفكار عجيبة لا أستطيع فهمها أو حتى استيعابها.


كما أنني بدأت أفكر مليًا وجديًا في الأمر… وأراجع نفسي في موقفي لترك ابني البيولوجي الوحيد مع زوجة أبيه. لماذا تركته؟ ولماذا أتركه لزوجة تأخذ مكاني وهي غريبة عليه؟ ماذا يمكن أن يحدث لو أقنعت زوجي الثاني بانضمام ابني لنا ونرعاه هو أيضًا في منزلنا الحالي؟


أصبحت في حالة دائمة من الارتباك وعدم الاستقرار وبدأت أفقد اتزاني وهدوئي. أصبحت عصبية أكثر وأغضب من أقل وأتفه الأسباب. هناك حمل ثقيل أحمله في داخلي يجعلني أفقد صوابي وعقلي.


ولهذا جئت لأستشيرك ماذا يمكنني أن أفعل؟ وكيف أتصرف أو أتعامل مع هذا الوضع الصعب؟ أعلم جيدًا أنني من وضعت نفسي فيه، وقبلته بكامل إرادتي الواعية. لقد كنت معتمدة على تفكيري المتعقل في جميع القرارات التي اتخذتها من قبل، وحاليًا لا أدري كيف لي أن أتصرف بحكمة.


وللعلم، فإنني لا أرغب في الطلاق مرة ثانية، وخاصة أن زوجي إنسان طيب وعاقل وأقدره كثيرًا.

هذه المشكلة تعتبر نموذجًا واقعيًا لإحدى أهم مشاكل الأسر العصرية في المجتمعات الحديثة. حدثت طفرات اقتصادية واجتماعية رائعة، أعطت المرأة فرصة كبيرة للعمل والاستقلالية المادية، وكل هذا التطور أتى بنتائج إيجابية بلا شك، ولكنه في نفس الوقت أحدث خللًا في استقرار الحياة الأسرية التقليدية التي كنا نعرفها ونقدرها إلى حد كبير.


ولا يغيب عن الأذهان أننا أمام ظاهرة اجتماعية بالغة الأهمية، لما لها من تأثيرات متضاربة لدى الكثير من الأسر العصرية، خاصة عندما يحدث الطلاق بين الزوجين، وتأتى الرياح بما لا تشتهي السفن. وتبدأ المعاناة الحقيقية لجميع الأطراف في ممارسة حياتهم الطبيعية بعد انتهاء العلاقة الزوجية والأسرية التي كانت تضمهم.


لنتأمل قليلًا ما يحدث عند حدوث الطلاق، وانتهاء العلاقة الزوجية بين أي زوجين، أي انتهاء العلاقة فعليًا. يمر الزوجان بعدة مراحل، من أهمها:

١. الصدمة الانفعالية التي يشعر بها الطرفان. (وسوف يكون حديثنا على المرأة المطلقة إلى حد واسع)؛ فالزوجة تفقد الاستقلالية التي كانت تستمتع بها في بيت الزوجية، ناهيك عن شعورها بصدمة نفسية عاطفية تجعلها تشعر بأنها محطمة، فاشلة، مرفوضة، غير مستقرة، ومهجورة. ولا تجد المساندة العاطفية أو حتى المعنوية التي تخفف مشاعر القلق تجاه ما حدث من تغير شديد في وضعها ومكانتها وكيانها في حياتها الشخصية والاجتماعية.

٢. التغير التدريجي في تقبل دورها الجديد كمطلقة، ولكنها تُسلَب استقلاليتها التي كانت مستمتعة بها أثناء العلاقة الزوجية، خاصة في اتخاذ القرار. ويتولى الأهل القيام بهذا الدور بدلًا منها أو نيابةً عنها، حرصًا منهم على حمايتها وتجنب تعرضها لمزيد من المشاكل أو المعاناة أو حتى مواجهة الآراء المحبطة وما يدور في محيطها.

٣. إعادة ترتيب وضعها داخل أسرتها السابقة؛ فالزوجة المطلقة مضطرة إلى التكيف مع وضع نفسي جديد وتقبله كما كانت قبل زواجها بين أفراد أسرتها السابقة. تُفرض قواعد جديدة (عادة تتقبلها بصعوبة)، ولكنها “قواعد ملزمة” يفرضها المجتمع عليها وعلى أسرتها، فهي بمثابة قوانين غير معلنة يجب أن تخضع لها بدون نقاش أو تحدي.

٤. تتعرض الزوجة المطلقة لاختبارات قاسية في تلك المرحلة الانتقالية؛ فهي تعاني من صدمتها العاطفية، وفي نفس الوقت عليها أن تمتص كل المتطلبات والمتغيرات التي تواجهها.

٥. تواجه تحديات نفسية صعبة لمحاولة الاعتماد على نفسها، معتمدةً على تفكيرها الخاص لإيجاد حلول مناسبة تنقذها من مشاعر الفشل والخوف والقهر الداخلي الذي يملأ حياتها وتحاول الفكاك منه. وفي كثير من الأحيان، تتخذ بعض القرارات المتعجلة، وتتقبل تضحيات قد لا تكون ملائمة تؤدي إلى حدوث مشكلات أخرى لا داعي لها. (عادة ننصح كلا الطرفين بعدم الإقدام على اتخاذ قرارات مصيرية بعد انتهاء العلاقة والطلاق، على الأقل لفترة عامين)، حتى تكون قرارات ملائمة لكلا الطرفين.

٦. مرحلة التقبل والاستقرار. بعد مضي فترة معقولة بعد الطلاق تعود الأمور إلى طبيعتها المستقرة، وتصبح الزوجة المطلقة أو الزوج المطلق قادرين على تبني وجهات نظر صحيحة، ترشدهم إلى اختيارات سليمة ومناسبة لاحتياجاتهم وحياتهم الشخصية. تبدأ مرحلة التقبل لما حدث سابقًا، والاعتراف والوعي بأخطائهم، ومن ثم ينتقلون إلى الشعور بالراحة والهدوء والطمأنينة، ويظهر التعاطف مع النفس ومع الآخرين المحيطين بهم. يحدث ما يسمى بالسلام الداخلي وتقبل مسؤولياتهم لتقليل التفاعلات السلبية، وتتاح لهم تعلم فنون الحياة بأشكالها الإيجابية التي تكفل لهم تحقيق الأهداف المرجوة في حياتهم مرة أخرى.


بالعودة إلى  مشكلة الزوجة التي طرحناها في بداية المقال.. 

كان من الواضح أن تلك الزوجة تواجه عدة مشاكل كثيرة طرأت على حياتها الزوجية الجديدة، ولم تكن على وعي كافٍ لمتطلبات أبناء الزوج وكيفية التعامل الصحيح مع وجود وتدخل الأم البيولوجية في شؤون حياتها الزوجية والمنزلية.


و من خلال جلسات العلاج العائلي تم التركيز على عدة محاور ضرورية و مهمة لمعالجة المشاكل التي تواجهها الأسرة الحالية. أهم هذه المحاور:

– وضع قواعد وضوابط واضحة للتعامل بين الزوجين، أبناء الزوج، والأم البيولوجية.

– توضيح وتحديد الدور الاجتماعي لكل فرد داخل الأسرة، دور زوجة الأب، دور الزوج والأب في نفس الوقت داخل الأسرة، دور الأم البيولوجية وعدم تدخلها في دور زوجة الأب. كما تم أيضًا توضيح دور أبناء الزوج ووضع حقوق لزوجة الأب بينهم.

– مساعدة زوجة الأب صاحبة المشكلة الرئيسية على التقليل من انفعالات الغضب والعدائية تجاه الأم البيولوجية وتقبل دورها كأم تقوم بواجبها تجاه أبنائها وتفهم احتياجاتها مع عدم المساس بدور زوجة الأب واحترام خصوصيتها في منزلها.

– مساعدة زوجة الأب على تلبية احتياجات أبناء الزوج وكيفية بناء علاقة دافئة وقوية معهم.

– كان من الضروري أن تتعلم زوجة الأب كيفية التواصل الفعّال مع الزوج وأبنائه والأم البيولوجية.


لقد كان من المفيد التركيز على عمل تعاقدات سلوكية بين أفراد هذه الأسرة للمحافظة على ما تم أثناء الجلسات العلاجية حتى تستمر العلاقات بينهم في مسارها وقنواتها الحياتية والاجتماعية التي تساعدهم على التكيف الفعّال والوصول إلى نتائج إيجابية في مواصلة حياتهم.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *