هل أنا من جيل Z؟
حين تسألنا المرايا الرقمية
بقلم الناقدة دكتورة / عبير خالد يحيي
كنتُ في نقاش عابر مع ابنتي، وهي من جيل التسعينات، تراقبني وأنا أتجاهل رنين جوّالي كما لو كان استدعاءً إلى امتحان غير معلن.
ابتسمت بمكر وقالت:
«هل أنتِ من جيل Z يا أمي؟!»
ضحكتُ في البداية، ثم تساءلتُ في داخلي: من هم حقًّا أبناء هذا الجيل الذي يفضّل الصمت الرقمي على الكلام المباشر؟ ولماذا أصبح التواصل البشري ذاته عبئًا نفسيًا علينا جميعًا؟
جيل بين الشاشات والنصوص المختصرة
جيل Z، الذي وُلد بين منتصف التسعينات وبداية الألفية الجديدة، هو أول جيلٍ لم يعرف عالمًا بلا شبكةٍ رقمية. وُلد ويده تمسك شاشة، وعقله يتغذّى على الصور والمقاطع القصيرة، وأذنه اعتادت الأصوات القادمة من الأجهزة، أكثر من أصوات البشر.
هو جيلٌ تشكّل وعيه داخل واقعٍ افتراضي تتداخل فيه المسافات، وتذوب فيه الحدود بين العام والخاص، بين ما يُقال وما يُكتب، وبين ما يُشعر به وما يُعبَّر عنه برمزٍ أو إيموجي.
لقد تربّى في بيئةٍ تمنحه العالم كلّه بلمسة، لكنها في الوقت ذاته نزعت منه عادة الإصغاء الطويل والحديث المليء بالتفاصيل.
لماذا يهرب جيل Z من التواصل المباشر؟
يُقال إن هذا الجيل لا يتحدّث، بل يرسل إشارات.
وهو لا يفعل ذلك بدافع الجفاء، بل بدافع الخوف؛ الخوف من الانكشاف العاطفي، من التورّط في حوارٍ يتطلّب وجهًا وصوتًا وحضورًا لا يمكن تعديله أو حذفه.
في العالم الواقعي لا توجد خاصيّة “تراجع عن الإرسال”، ولا يمكن للمرء أن يصمت ثلاث ثوانٍ ثم يكتب من جديد.
لقد اعتاد جيل Z على التواصل غير المتزامن، حيث يمكن الرد بعد دقيقة أو يوم أو لا يُردّ إطلاقًا.
ففي زمن السرعة، صار الزمن البشري أبطأ من اللازم، وصار الصمت أهون من تفسير المشاعر.
جيل الاختصارات والرموز: لغة بلا صوت
هو جيلٌ يتكلّم لغة جديدة قوامها الاختصارات والاختزالات.
يكتب “LOL” بدلًا من “ضحكت كثيرًا”، ويرسل وجهًا باكيًا بدلًا من جملةٍ طويلةٍ عن الحزن، ويعبّر عن الحب بقلبٍ أحمر بدلًا من آلاف الكلمات.
هو جيلٌ اختزل اللغة حتى أصبح الرمز هو النص، والإشارة هي الفعل، والمعنى يُفهم لا من الجملة بل من (الإيموجي) المرافق لها.
لقد وصلنا – أو كدنا نصل – إلى مرحلةٍ يمكن أن تُسمّى اعتزال الكلام.
ليس صمتًا مرضيًا، هو صمتٌ رمزيّ جديد، حيث الكلمات تُستبدل بالصور والرموز والإيماءات.
إنها مرحلة يتراجع فيها اللسان لصالح الأصبع، والنبض لصالح الإشعار.
خلف السلوك النفسي: الحاجة إلى الأمان
من الناحية النفسية، هذا السلوك ليس مجرّد نزوة جيلية، بل آلية دفاعية ضد عالمٍ مثقلٍ بالضجيج والقلق.
جيل Z يعيش في فضاءٍ مفتوحٍ على آلاف العيون، يُراقب ويُقارن باستمرار، فيتراجع عن الظهور خوفًا من الخطأ أو الرفض.
الاختباء خلف شاشةٍ صغيرة يمنحه شعورًا بالسيطرة: يمكنه أن يُغلق التطبيق متى شاء، أن يحذف الرسالة أو يُخفي الحالة.
هي محاولةٌ لاستعادة حريةٍ فقدها في واقعٍ يحاسبه على كل تفصيلة.
وفي الوقت نفسه، يُعبّر هذا الانكفاء عن إرهاقٍ اجتماعيٍّ حقيقي.
بعد سنواتٍ من الانفتاح المفرط، صار الإنسان يشعر بتخمةٍ في التواصل، وتعبٍ من تعدّد الوجوه والآراء والمواقف.
العزلة إذن ليست انسحابًا بقدر ما هي استراحة من العالم.
العدوى الرقمية: حين نصبح مثلهم
الطريف أن هذا السلوك لم يَعُد حكرًا على جيل Z.
فالكثير من أبناء الأجيال السابقة – نحن الآباء والأمهات – بدأنا نتبنّى عاداتهم دون أن نلاحظ ، نفضّل الرسالة على الاتصال، والرد المتأخر على المحادثة المباشرة، ونستعيض عن الكلمات بابتسامةٍ رقمية.
ربما لم نتحوّل بعد إلى جيل Z تمامًا، لكننا أصبحنا نسير في طريقه بخطى هادئة وواثقة، متأثّرين بالمنطق الجديد للعصر: من يملك وقته يملك ذاته.
في النهاية: الإنسان لا يُختصر في رمز
ربما لم أعد أجيب على الهاتف كثيرًا، لكني ما زلت أؤمن بأن الصوت البشري دفء لا تُعوّضه الشاشة.
وأن اللقاء وجهًا لوجه هو تمرين على الإنسانية قبل أن يكون تواصلًا اجتماعيًا.
جيل Z لا يهرب من العالم، بل يحاول إعادة صياغته بلغته الخاصة، لغةٍ بلا ضوضاء ولا مواجهة، لكنها أيضًا بلا حرارة.
ربما علينا أن نلتقي في منتصف الطريق:
أن نتعلّم منهم سرعة الفهم، ويستعيدوا منا بطء الإصغاء.
فما بين الرمز والكلمة، بين الإيموجي والضحكة، هناك إنسان ما زال يبحث عن صوته.

عزيزتي وانا تلك الانسانه التي تبحث عن صوتها لتعبر لكم عن جميل سردكم وتناولكم للموضوع القضية ….. شكرا نيابة عن صوتي واحساسي وجيلي.