
هل حقًا نحن فى عصر القلق ؟
بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم- استشاري نفسي

يحلو لكثير من المفكرين المعاصرين ، وأدباء هذا العصر أن يصفوا عصرنا هذا آنه عصر القلق . لكننا اذا تأملنا مايدور حولنا وبنظرة فاحصة للحقائق التاريخية تبين لنا أن القلق شعور قد عرفه الاقدمون كما عرفناه حاليًا .. كما أنهم عرفوا المخاوف المرضية وعانوا منها كما نعانى نحن .
فمفهوم ” القلق ” إذن ليس جديدًا ، ولا هو أيضا من صنع علماء النفس المعاصرين . وما يرتبط بالقلق من مفاهيم كالخوف والهم والتوجس أشياء سادت أفكار الناس وسيطرت على مشاعرهم فى مختلف عصورهم الحضارية. وحاولوا – مثلنا – أن يفسروها ، وحاولوا – مثلنا – أن يجدوا طرقًا لعلاجها . ويؤكد لنا علماء التاريخ – مثلًا – أن فكرة الخلود التى ملكت عقول الفراعنة ودفعهم لبناء الأهرامات الشامخة والمعابد المهيبة قد قامت على هذا الشعور الأبدى بالقلق من الموت والخوف من الفناء .
فأبيقراط الحكيم (٤٦٠ – ٣٧٧) يحدث اليونانيين القدامى عن أحد إنواع القلق حديث العارف فوصف لهم حالة رجل تملكه الخوف منً الأماكن المرتفعة لدرجة أعجزته عن السير فوق الكبارى المرتفعة ، أو حتى الوقوف على الصخور البارزة فوق سطح الأرض .
وفى العصور الوسطى نجد الفيلسوف العربى “علاء بن حزم القرطبي ” يؤكد أن القلق حقيقة أبدية ، ويعامله – كعلماء النفس المعاصرين – على أنه شرط أساسى من شروط الوجود الآنسانى .
ويبدو أن العرب لم يكتفوا بوصف القلق وشرحه ، بل أهتموا أيضًا بعلاجه كما كانت تعالج الهموم والمشكلات النفسية الاخرى بالطرق الطبية المعروفة لهم انذاك . وقد تفوق الطبيب الفيلسوف “ابن سينا” على غيره من الأطباء فى الشرق والغرب عندما تنبه الى ما يتركه القلق والأنفعالات على الجسم ووظائفه من تغيرات .
ولفخر الدين الرازى محاولات مماثلة لتعريف القلق ووصفه ومايتركه من آثار على النفس والسلوك ضمنها فى كثير من كتبه خاصة كتابه المعروف ” للمباحث الشرقية فى علم الآلهيات والطبيعيات ( الرازى ١٩٦٦ ، الجزءان : الأول والثانى) . صحيح أن الرازى لم يستخدم مفهوم القلق كما نستخدمه الآن بالضبط ، لكنه يحدثنا عن أحد الانفعالات المرتبطة إرتباطا رئيسيًا بالقلق وهو الخوف . ويعرف الخوف تعريفًا لا يختلف عن غيره فى الكتب الحديثة. فدعنا ننظر الى ما يقوله الرازى فى تعريف الخوف :
” إنه متى ظن الإنسان أن أمرًا مضرًا سيحدث له مستقبلًا ، فأنه تتبع هذا الظن حالة تسمى
خوفًا ” .
وعندما يصف الرازى ما يسمى “بضعف القلب” نفهم من حديثه شيئًا مماثلًا عما نعرفه عن القلق ، خاصةً عندما يدرك إن ضعف القلب ” حالة بالقياس الى الإمر المخوف من جهة قلة أحتماله ” ، وأن من لوزام ضعف القلب أنه “يحرك (الانسان) الى الهرب” . وفى هذا الوصف لهذا الجانب من القلق وما يتركه من رغبة فى الهروب من الموقف المخوف نرى صلة قوية بتعريف علماء النفس المعاصرين للقلق على أنه يعد الانسان لمواجهة المخاطر بالهروب منها أو الهجوم عليها .
كذلك يكشف لنا تاريخ الطب النفسي عن حقائق تبين لنا أن القلق لم يميز بين العظماء والصعاليك . وهناك ما يثبت أن حياة كثير من العظماء والمشاهير لم تنج مشاعر القلق وضروراته، فالإمبراطور أغسطس كان يجزع من الظلام ولم يكن يجرؤ على البقاء فى مكان مظلم بمفرده . وعانى كثير من أفراد أسرته القياصرة من بعده من حالات كثيرة تشبه المخاوف المرضية الشديدة وتقترب من العصاب والجنون ، مثل ” كاليجولا ” ، و ” نيرون ” ، و” كلوديوس ” . وكان هذا الاخير يتلعثم ويتهته عندما يتحدث مع الأخرين أو عندما يخطب فى الرومانيين . وهناك أيضًا الملك
” جيمس الأول ” الذى كان يجزع من رؤية السيوف إذًا شهرت لدرجة أن معاصريه كان يعلقون عليه فيما بينهم مازحين ” لقد أصبحت اليزابيث ( زوجة الملك جيمس الأول ) هى الملك ، وتحول جيمس الأول الى ملكة ” .
ويسجل لنا رونالد فييف Fieve – وهو طبيب نفسى معاصر معروف بسبب اكتشافه لعقار الليثيوم Lithium المعروف بتأثيره الإيجابى فى علاج حالات التقلب الانفعالي.. يسجل لنا أن الرئيس الأمريكى “تيودور روزفلت ” كإن فضلًا عن إصابته بمرض الهوس والاكتئاب يعانى من حالات شديدة من القلق لا ينام إلا قليلًا ، ويغرق نفسه فى إتصالات هاتفية دائمة ، وكتابات تافهة مستمرة .. كان يبدو أنها محاولة منه لتجنب مشاعر القلق الحادة والاكتئاب المتأصل فيه منذ الصغر .
وبالمثل يبين تاريخ الأدباء والفنانين شيئًا مشابها ، فالكاتب الايطالى “مانزونى” كان يخاف أن يغادر منزله بمفرده خوفًا من الإغماء ، ولهذا كان يحمل معه زجاجة “خل” صغيرة ينتقل بها إذا ماكانت هناك ضروره لخروجه . ومن المعروف عن الشاعر العربى ” ابن الرومى ” أنه كان مسرفًا فى تشاؤمه وتخوفه لدرجة أنه كان يرفض أن يخرج من داره إذا ما تلمس أى علامة من علامات التطير وكان فى ذلك مسرفًا ومبالغًا لدرجة المرض . ويصف طه حسين أن أبا العلاء المعرى قد سجن نفسه فى منزله هروبًا من الناس لدرجة أنه يصفه بأنه سجين المحبسين : العمى البصرى ، والخوف من الناس .
ويبدو لنا أن أبا العلاء المعرى كان يعانى بلغة علم النفس الحديث – من حالة قلق إجتماعى شبيهة بما يسمى : بالخوف الاجتماعى Social Phobia – تظهر فى هذا البيت الشعرى الذى كتبه أبو العلاء وهو تحت تأثير هذا الخوف :
عوى الذئب فأستأنست بالذئب …
إذ عوى ، وصوت إنسان فكدت أطير .
ومن أدباء مصر المعاصرين المعروفين الدكتور “يوسف آدريس” الذى يوجد ما يدل على أنه كان يمر بحالات كثيرة من القلق وبالذات ما يسمى بقلق الأماكن المتسعة . يروى لنا ” ألان آموس Amos ” أنه إلتقى ذات مرة بالكاتب المصرى يوسف إدريس وخرج معه فى إحدى الأمسيات لزيارة إحدى الأحياء الشعبية بمدينة القاهرة بمناسبة إحدى الاحتفالات الدينية المعروفة : ” وكان الطريق مزدحمًا ، مكتظا بالناس الذين وفدوا الى المكان بسبب هذه المناسبة الدينية . وكانت سيارتنا تتحرك ببطء شديد خلال الزحام ، وفجاءة انتابت”إدريس” نوبة حادة من نوبات الخوف من الاماكن الواسعة . وأخذ “إدريس” يصيح فى ذعر طالبا الانصراف والعودة ، والبعد عن الزحام .. كان يرجف ويكرر طالبًا إنهاء هذه الزيارة ، والبعد عن الحشد الذى كان لا يزال يتكاتف من حولنا ” .
ومن الغريب أن “سيجموند فرويد” الذى يعتبر من أكثر العلماء اهتمامًا بوصف القلق وعلاجه ، قد عانى أيضًا من أعراض القلق بما فى ذلك الخوف الشديد من السفر عندما كان فى الثلاثينيات .
وذكر ” نجيب محفوظ ” أيضًا أنه عانى من الخوف من السفر . ولما اضطر للسفر الى ” اليمن ” فى سنة ١٩٦٢ إرضاءا للسلطة الحاكمة عاد وقد نقص وزنه ١٣ كيلو جراما كاملة مما كان سيصيبه بالهزال ويهدد حياته بشكل كبير .
والخلاصة .. أن القلق يمكن أن نراه كما كان يراه الفيلسوف العربى ” ابن حزم ” على أنه حقيقة أبدية .
وأنه حدث ويحدث فى مختلف الاوقات والعصور ، ويصف الناس على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم .