
وَجهٌ آَخَر
بقلم الكاتبة/ إنجي علوي شلتوت

متفردة بقهقهتها الرنانة، عندما تسمعها تدرك تلقائيًا أنَّ مدام (أشجان) على مقربة من موقعك، وخاصة عندما تنفذ إلى أنفك رائحة دخان النعناع المنبعثة من سيجارتها التي لا تفارق يدها.
من الوهلة الأولى تبدو أنَّها من هؤلاء السيدات اللاتي تلقين تعليمًا أجنبيًا، لكثرة ما ينطق به لسانها من عبارات باللغة الفرنسية مثل:
“oh mon dieu و merci beaucoup”
وحيث إنها دائمة الشكوى من أفعال حارس العقار، دائمًا ما تتذمر منه قائلة:
“البواب دا هايجيب لنا catastrophe!”
مع نطق حرف الغين عوضًا عن الراء، فيتكون لدى أي شخص يراها انطباع فوري بأنها آتية من لب الطبقة الأرستقراطية، لتستأجر شقة في عقارنا بحي (جاردن سيتي)، في الطابق ذاته الذي أقطن به، وفي الجهة المقابلة لشقتي.
عندما ألتقي مدام (أشجان) مصادفة، أراها تتبختر بخيلاء، كأنها إحدى الفنانات اللاتي يمشين على السجادة الحمراء ليستعرضن طلتهن، فعندما تلمح ملبسها للوهلة الأولى، تتأكد من أنَّها لا ترتدي سوى ملابس من بيوت الأزياء العالمية، وبأنَّ فطورها لا يخلو من الشاي الإنجليزي والكرواسون بالمربى، وأن أغنيتها المفضلة هي:
(Non, rien de rien).
يتلاءم جسدها الممشوق مع تنسيقات محددة من الهندام والتي لا تليق عادةً بأجساد الممتلئات من النساء في سنها، في الشتاء ترتدي معاطف ضيقة يزينها الفرو عند محيط الرقبة، وفي الصيف لا تتخلى عن السراويل الچينز، و(تي شيرتات) ماركة (balmain) بألوانها كافة.
ادَّعت مدام (أشجان) مرارًا أنَّ لها مشروعًا خاصًا يدر عليها المال، ولكن لم تجرؤ الجارات على سؤالها عنه، وإن حدث.. تراوغهن (أشجان) ببراعة، وتتملص من الإجابة.
لكن القدر لم ينصفها طويلًا، عندما رافقتُ إحدى صديقاتي إلى صالون تجميل كائن في إحدى شوارع (السيدة زينب)، وكان آخر ما توقعته هو رؤية مدام (أشجان) داخل الصالون.
لا، ليس كما جال في خاطرك بأنَّها صاحبة ذلك الصالون، ولكنني وجدت مدام (أشجان) تعمل فيه كمصففة للشعر.
عرفتها من قهقهتها الرنانة، كانت ترتدي الزي الخاص بالصالون، وتصبغ شعر إحدى السيدات، وبعد أن انتهت.. ناولتها السيدة بقشيشًا، نعم.. لقد مدت يدها وانتزعت البقشيش بفرحٍ ظاهر، وما إن تناولت البقشيش حتى أخفته في جيبها باحترافية شديدة.
وعندما التقت أعيننا، تجاهلتني وكأنها لا تعرفني، لكن بالنسبة لي، إن مدام (أشجان oh mon dieu) لن يُخطئ معرفتها أحد.
راقبتها طويلاً ومن ثم رحلتُ، وفي طريق عودتي إلى (جاردن سيتي) استرجعتُ ملابسات تلك المصادفة العجيبة، وعزمتُ على رصد تحركاتها عن بُعد؛ حتى تتضح لي حقيقة الأمر.
تعلمتُ ألا أصدق المظاهر فهي خادعة، فقد تبيَّن لي أنَّ مدام (أشجان) آتية من وسط شعبيّ، وتعتمد اعتمادًا كليًا في تكوين ثروتها على ما تحصل عليه من نقود تتلقاها من السيدات اللاتي يرتدن صالون التجميل.
وأنَّ الملابس التي تقتنيها ما هي إلا من محال شعبية نجحت في أن تُقلد (الماركات) العالمية بعناية، وبأنَّها تخرج خلسة في الصباح؛ لتشتري الفطور من بائع عربة الفول قبل أن تزدحم، وأنَّ الذي يستقر أعلى رأسها ما هو إلا شعر مستعار من ضمن مجموعة تقتنيها، وأنَّ عمرها الحقيقي ليس في آخر الثلاثينيات كما ادَّعت دائمًا.
أصبحتْ مدام (أشجان) تقتصد معي في الحديث، وتتحاشى النظر إليّ إذا ما تقابلنا مصادفة عند ساحة شقتينا، فأيقنتُ أن المرء قد ينقلب عدوًا، لمجرد أنَّك أبصرت حقيقته التي يجاهد في إخفائها عن الكثيرين.
وإذا ما حدث ورأيت مدام (أشجان) تتجاذب أطراف الحديث مع إحدى الجارات عند مدخل العقار، أتباطئ في خطواتي حتى أسترق السمع، فأجدها تارةً تتحدث عن مشروعها الخاص، وتارةً عن اشتياقها إلى والديها اللذان يقيمان خارج البلاد، فأستقل المصعد وأنا أبتسم رغمًا عني. إنَّها متعةٌ من نوعٍ خاص، عندما تعلم أنَّ المتحدث كذوب، ولكنك تجاريه، كأنه يريك صورًا لنفسه وهو يقف على سطح القمر.. ويجهل بأنَّ القمر بازغ من ورائه!