
نداء الشعر في زمن الفتنة: قراءة ذرائعية في قصيدة "دعوة للمحبّة"للشاعرة السورية سمر الديك
بقلم الدكتورة /عبير خالد يحيي

نص القصيدة:
وطني – إذا اشتدّ الدجى – مصباحي
أملًا يحاولُ نهضةَ الإصلاحِ
والحقدُ ينمو في النفوسِ وإنّما*
بالحبِّ تُبنى أُلفةُ الأرواحِ
وبهِ نُعيدُ الياسمينَ لشامِهِ*
ما أحوجَ البستانَ للفلّاحِ!
وبهِ ستجتمعُ الطيورُ لعُشِّها*
وبهِ سنمحُوا فعلَ كلِّ سلاحِ
فلِمَ التّناحرُ؟ هل مضتْ أحلامُنا*
خلفَ الرّياحِ؟ وخلفَ أيِّ رياحِ؟
كم دمّرتْ فتنٌ بلادًا! مزّقتْ*
أوصالَها فغدَتْ بغيرِ كِفاحِ
ما الحربُ إلاّ من جحيمِ جهنَّمٍ*
تجتاحُ، تحصدُ بهجةَ الأفراحِ
فدعوا التّناحرَ واستعينوا بالدُّعا*
فاللهُ أهلكَ زمرةَ الأشباحِ
ودعوا التّشرذمَ والشّتائمَ كلَّها*
فالشامُ تبكي لوعةً بجراحِ
كونوا كما الأغصانُ في شجرٍ
وتحصّنوا من حُرقةِ الأتراحِ*
التجنيس الأدبي :
قصيدة عمودية تندرج ضمن الشعر الوجداني الاجتماعي، الذي يجمع بين الحس الوطني والطرح القيمي الشفاف.
أولًا: البؤرة والخلفية الأخلاقية
البؤرة: القصد العام للقصيدة هو رفض الحروب والفتن، والدعوة للوحدة والمحبة في زمن الانقسام والدمار.
البؤرة تنبثق من موقف الشاعرة تجاه وطنها الجريح، ومن رغبة في توجيه الوعي الجمعي نحو بناءٍ نفسي واجتماعي من جديد.
فالنص يوجّه نداءً حاسمًا إلى الإنسان العربي والسوري خاصةً، في ظل الدمار والتناحر، ويدعو إلى استبدال لغة الحرب بلغة الحب.
الخلفية الأخلاقية:
واضحة في الاعتماد على القيم الإنسانية والدينية:
الدعوة إلى “المحبّة” لا الكراهية.
رفض “الحقد” و”السلاح” و”الشتائم”.
الحثّ على “الدعاء”، و”الرجوع إلى الله”، في تصوير رمزي يعيد ترتيب المعنى الأخلاقي كمفتاح للنجاة.
ثانيًا: المستوى التركيبي البصري
الشكل العام تقليدي، أبيات متراصة موزونة، تتبع بناء القصيدة العمودية، مع توحيد للقافية (حرف الحاء)، مما يمنحها ثباتًا إيقاعيًا ومعنويًا.
علامات الترقيم – وإن لم تكن كثيرة – لكنها تؤدي وظيفة الفصل بين الأفكار (علامات التعجب، الاستفهام، الفواصل).
ثالثًا: المستوى اللغوي:
اللغة شاعرية مباشرة، لا غرابة فيها، لكنها تُوظّف المجاز والرمز دون تعقيد:
“الياسمين”، “الطيور”، “البستان”، رموز للسلام والعودة.
“السلاح”، “الفتن”، “الأشباح”، رموز للدمار والموت.
التراكيب تتراوح بين الخبرية والإنشائية:
خبرية: “وطني إذا اشتد الدجى مصباحي”.
إنشائية: “فدعوا التناحر”، “ما الحرب إلا من جحيم جهنم”، مع توظيف بلاغي واضح (كناية، استعارة، تشبيه ضمني).
استخدام أدوات الربط مثل “فـ”، “ما”، “إنما”، يعزز من ترابط المعنى وتتابعه المنطقي والعاطفي.
“الشام”، “البستان”، “الياسمين”، رموز واضحة للوطن والجمال.
استخدام صيغة النداء والندبة (“وطني”، “ما أحوجَ البستان”) تضفي طابعًا عاطفيًا.
استُخدمت أفعال الحركة والتغيير: (نُعيد، سنمحوا، اجتمع، تحصّنوا) للدلالة على الفعل والتحول.
الصور البلاغية مشحونة بعاطفة صادقة (مثل: “الشام تبكي لوعةً بجراحِ”).
استخدام الاستفهام (“فلمَ التناحر؟”) يُثير عقل المتلقي ويورّطه وجدانيًا.
البحر العروضي:
كُتبت القصيدة على البحرالكامل التام، ويُعرف بتفعيلاته الأساسية :
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
يُعرف هذا البحر بـ”بحر الانفعالات الجيّاشة”، وغالبًا ما يستخدم في الشعر الحماسي، أو الرثائي، أو الخطابي، وهو يتماشى تمامًا مع نبرة القصيدة.
القافية: موحدة على حرف الحاء، مما يخلق وحدة صوتية تعزّز من تماسك القصيدة وإيقاعها الداخلي.
انسيابية التفعيلة في القصيدة تدل على تمكّن الشاعرة من الوزن وإحساسها بالموسيقى الداخلية والخارجية على السواء.
رابعًا: المستوى الديناميكي (الحدثي):
العنوان:
عنوان القصيدة: “دعوةٌ للمحبّة”
يحمل طابعًا وظيفيًا مباشرًا، ويعبر عن القصد من القصيدة دون مواربة.
فالعنوان جملة اسمية مبدوءة بـ”دعوة”، وهو ما يشي بأن القصيدة لا تكتفي بالتوصيف بل تحمل رسالة مباشرة.
– لفظة “المحبّة” ذات طابع روحي وإنساني، مما يجعل العنوان دافئًا، ويحمل وظيفة استباقية للقارئ، توجّهه نحو التلقّي العاطفي والانفتاح على السلام بدل الصراع.
حركية القصيدة:
القصيدة ليست وصفية فقط، بل حركية ومتصاعدة في نبرتها:
فهناك تصاعد في حدة العاطفة: تبدأ القصيدة بنبرة رجاء (أملٌ يحاول نهضة الإصلاح).بإشراق الأمل رغم الظلام، ثم تنتقل إلى التشخيص ” الحقد ينمو”،” ستجتمع الطيور”.
ثم تأتي الذروة جلّية في البيت: “ما الحرب إلا من جحيم جهنم”، وهي لحظة الانفجار الدلالي الذي يبلغ فيه الألم ذروته.
وأخيرًا تصل إلى نداءات مباشرة: “دعوا التناحر”، “استعينوا بالدعا”.
تنتهي القصيدة بنداء توحيدي: “كونوا كما الأغصانُ في شجرٍ”، يفضي إلى نتيجة أخلاقية وجدانية، وهو ما يشير إلى اختتام دائري عاطفي وأخلاقي.
كل بيت يتقدم بالمعنى ليبني على ما قبله، بتناسق يجعل القصيدة موجهة بشكل تفاعلي للقارئ أو السامع.
فهناك تصعيد في الموقف الشعري، يبدأ من الحنين إلى الوطن بوصفه “مصباحًا”، ويتصاعد نحو نداءات مباشرة للإصلاح.
خامسَا: المستوى النفسي
النص يشكّل بؤرة انفعالية تدور حول الألم والحنين والرغبة في الخلاص.
فالقصيدة تحرّك مشاعر القارئ بالاعتماد على النوستالجيا ( الحنين) إلى الشام والياسمين، وتقابلها ب ” الفتن” و” السلاح” و” الشتائم”.
النفس الشاعرة واضحة جدًا في القصيدة:
تتألم لكنها لا تستسلم،
تؤمن بالله، وتراهن على الدعاء والمحبّة،
ترى في الاجتماع والعودة إلى القيم طريقًا للنهضة.
الخطاب موجه إلى الجماعة، وهذا يُؤسس لحالة نفسية جماعية من المسؤولية والندم والرغبة في التغيير.
توظيف ثنائية “الخراب/البناء”، “الظلام/النور”، “السلاح/الدعاء”، يمنح المتلقي فرصًا للتماثل العاطفي والانخراط الوجداني.
فالحالة النفسية العامة للنص هي التوتر المتأرجح بين اليأس من الواقع والرجاء في التحوّل.
سادسًا: المستوى التداولي الذرائعي
المخاطَبون: أبناء الوطن، خاصة الذين تورطوا في التناحر والانقسام، أو أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالخلاص الجماعي.
المقصدية: ليست فقط إنشادًا شعريًا، بل نوع من الخطاب التحفيزي الهادف إلى إيقاظ الضمير، وتفعيل الحضور القيمي في المجتمع.
المرجعية الزمنية والمكانية: القصيدة تحاكي واقع سوريا بعد الحرب، والرموز (الشام، الياسمين) تدل على أن الكلام موجّه لواقع ما بعد الصدمة.
الرسالة التداولية هي: لا خلاص إلا بالمحبّة، ولا إعادة إعمار دون إعادة بناء الروح.
سابعًا: التجربة الإبداعية
الشاعرة تعكس تجربة وجدانية أصيلة تنبع من انغماسها في الواقع العربي الحديث. حيث تنطلق الشاعرة من وجدان شخصي، لكنها تخاطب الجمع بصيغة عامة ” دعوا، كونوا، استعينوا” ما يدل على وعي اجتماعي وإحساس بالمسؤولية الجمعية .
تمكّنها من اللغة والوزن والمجاز يكشف عن تجربة فنية متقدمة، توفّق بين الشكل الكلاسيكي والمضمون العصري.
من خلال التكرار والدعوة ( دعوا التناحر، دعوا التشرذم)، يتضح أنها صاحبة رسالة تتجاوز الشعر إلى الإصلاح الاجتماعي والوطني.
يلمس القارئ عمقًا إنسانيًا وخبرة فنية متوازنة بين الالتزام الأخلاقي والجمالي.
ثامنًا: التقييم الذرائعي النهائي
– المقروئية: عالية جدًا، بفضل وضوح اللغة وصدق الشعور.
– الأثر الجمالي: توليفة ناجحة بين البلاغة والانفعال.
– القيمة الأخلاقية: سامية، تستند إلى المحبة والدعاء بديلًا عن العنف.
– القيمة الفنية: تعتمد على التوازن بين الشكل والمضمون، واستخدام الرمز بشكل مباشر يخدم خطابًا جمعيًا واضحًا.
خاتمة:
تمثل قصيدة “دعوة للمحبّة” صرخة شعرية تحمل في عمقها رؤية إنسانية مقاومة، تدعو إلى السلام الداخلي والاجتماعي، وتُجسّد، من خلال الشكل والمضمون، مشروعًا شعريًا إصلاحيًا في زمن التشظي. توفّق الشاعرة بين الحُلم والواقع، بين الحب والألم، وتؤكد أن الإبداع الحقيقي ينبثق من رماد المعاناة.