
حين تنام المدن في جيب القصيدة : قراءة ذرائعية في نص الشاعرة السورية فيروز مخّول
بقلم الناقدة الدكتورة/ عبير خالد يحيي

مقدمة
في زمن تُمتهَن فيه الجغرافيا وتُبَعثر فيه المدن كما يُبعثر الحلم، تأتي قصيدة “حين تنام المدن في جيب معطفك” للشاعرة فيروز مخّول كصرّة محمولة من الحنين، وجرعة شِعرية تحتضن الأمكنة لا بوصفها خرائط بل ككائنات حيّة تلتفّ حول ذاكرة القلب.
القصيدة تنتمي إلى قصيدة النثر التأملية، وتُبنى على رؤية عاطفية رمزية يتماهى فيها الوطن بالمحبوب، وتتماهى فيها الأزمنة والمسافات في صورة مركبة من الدفء والفقد. نقرأ هنا نصًّا لا يرثي المكان بل يُعيد صناعته، عبر استعارات حميمة، وإشارات تتوسل الرمز والنبض الداخلي للمكان والإنسان.
التحليل الذرائعي
1. البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
البؤرة الفكرية: الانتماء المحمول في الذاكرة والحنين، حيث المدن ليست أمكنة بل رموز للهوية العاطفية.
الخلفية الأخلاقية: تحضر كقيمة وجدانية تُكرّم المدن، وتُعيد إليها الحياة من خلال القصيدة. يتجلى فيها وفاءٌ شعري اتجاه الأماكن التي شكّلت الوعي والذاكرة.
“حين تنام المدن في جيب معطفك”
“ولا أحد رأى كيف تدفئ برد المسافات بقبضة واحدة
→ هنا تتجلى فكرة أن المدن لا تُغادر القلب، بل تُختزن وتُدفأ في الذاكرة والمعطف.
2. المستوى اللغوي:
لغة عالية الانزياح، مشبعة بالصور والاستعارات.
بنية نحوية مرنة، توازن بين الجمل الفعلية والاسمية.
ألفاظ ناعمة، تُبنى لتخدم صورة الحنين، دون غموض أو زخرف.
“كأنك تشعل نجمًا في جيبك الداخلي وتنسى” → صورة استعاريّة مركّبة.
“تغفو الأرصفة مطمئنة” → تشخيص الأرصفة.
“تبتسم المصابيح كأنها تتذكر وجهك من حلم سابق” → لغة حسّية ومرهفة.
→ اللغة قائمة على الانزياح الشعري، الصور التشخيصية، الأفعال الحيّة.
3. المستوى الجمالي
تشخيص المدن وتحويلها إلى كائنات حيّة.
اعتماد التوازي الإيقاعي والمفردات الإيحائية.
نهاية مشهدية توظّف سقوط زهرة الياسمين كرمز لحالة الانكسار الناعم، ما يمنح النص بُعدًا سينمائيًا هادئًا.
“كل إشارات المرور تنحني إجلالًا” → جمالية الحركة + مفارقة المشهد.
“تتبعثر المدن على الأرض كرسائل بلا ساعٍ” → صورة ختامية مشهدية قوية.
“دمشق… فلا تنام… ترقد بهدوء وتزرع الياسمين في بطانة المعطف” → مشهديّة أنثوية أمومية.
→ هنا الجمال نابع من التصوير والمشهديّة والانتقالات الرقيقة بين المقاطع.
4. المستوى الرمزي
المعطف رمز لذاكرة الشاعر الحاملة للمدن.
دمشق رمز للأمومة والاحتواء، وهي الوحيدة التي “لا تنام”.
“دمشق تزرع الياسمين” = رمز الوطن الأم، رمز البراءة والجمال المستمر رغم الخراب.
“زهرة ياسمين تسقط من الجيب” = رمز الفقد والانكسار الشعري.
الزمن والمطر والقطارات إشارات كونية تنصاع لخطى المحبوب، في تعبير أسطوري عن حضوره الشعري.
“القطارات توقفت احترامًا للغيم الذي يتبعك” = رمز التحول الداخلي الذي يُحدث أثرًا كونيًا.
5. المستوى التداولي
المرسل: الشاعرة، بصوت أنثوي حالم وعاشق.
المرسل إليه: المحبوب، الوطن، وربما الشاعر في مرآة ذاته.
الوظيفة التداولية: وجدانية جمالية، تدمج الإهداء بالحكي التأملي والرثاء غير المعلن.
شواهد على الوظيفة التداولية (نداء/إهداء/حوار مع الغائب):
“حين تنام المدن في جيب معطفك” → ضمير المخاطب الغائب.
“تبتسم المصابيح كأنها تتذكر وجهك من حلم سابق” → خطاب موجّه إلى المحبوب.
“وحين تخلع معطفك وتعلقه على مشجب الغياب” → عتبة وداع/انكسار موجهة إلى الآخر.
التداول هنا يقوم على وظيفة وجدانية – استرجاعية – شعرية.
6. المستوى النفسي
شعور بالحماية في صورة المعطف.
نوستالجيا متوازنة، لا تنزلق إلى مراثي، بل تُضفي طمأنينة على الفقد.
دمشق كرمز أمومي تعيد بناء عالم الشاعرة بعد “تبعثر المدن”.
شواهد على التوتر النفسي والحنين العميق:
“تبعثر المدن على الأرض كرسائل بلا ساعٍ” → إحساس الفقد والضياع.
“المطر لا يسقط حين تمر، هو فقط يصغي لخطواتك” → تضخيم الأثر النفسي للشخصية.
“دمشق… تزرع الياسمين في بطانة المعطف” → نزوع للعودة/استمرار الأمل رغم الغياب.
المستوى النفسي قائم على ازدواجية الطمأنينة (احتضان المدن) + القلق (الفقد عند تعليق المعطف).
التجربة الإبداعية
تكتب فيروز مخّول من نسيج عاطفة حارقة وذاكرة مشبعة بالمدن، لكنها لا تقع في فخ البكائية، بل تحوّل النكسة إلى دفء، والمنفى إلى معطف يحمل المدن، الواحد تلو الأخرى، كما لو كانت أولادًا تحتمي من العاصفة في جيب الأبوة.
في هذا النص، تستعيد الشاعرة طريقتها الخاصة في إعادة تدوير المعنى، فلا تبني القصيدة على حدث أو قصة، بل على نَفَس طويل من المجاز الكثيف الذي يتحرك في مفاصل النص بانسيابية مشهدية. التجربة تقوم على دمج الذاتي بالجمعي، حيث تسكن الذات المدن، وتسكن المدن ذات الشاعرة.
ثمّة وعي شعري بمفهوم الهوية المبعثرة التي تعيد القصيدة جمعها، كما تُعيد دمشق جمع أجزاء العالم بعد سقوط ياسمينها الأخير. الكتابة هنا شكل من أشكال الخلاص، أو كما يمكن تسميتها: حيلة عاطفية لمقاومة الغياب بالتذكّر الشعري.
البناء المشهدي: “كل مدينة تعرفك بطريقتها”التقابل بين المدن الباردة (ستوكهولم) والحارة (دمشق – عمّان – القدس) → تنوع المشاعر.
نهاية مفتوحة (زهرة الياسمين/دمشق تعيد جمع العالم): استراتيجية الختام بإعادة البناء بدلًا من الانهيار التام.
خاتمة
“حين تنام المدن في جيب معطفك” ليست مجرد قصيدة، بل تميمة شعرية ضد الغياب، حيث تسكن الذكريات في الجيوب، وتتوزع الأحاسيس بين عواصم عتيقة وحديثة، تلتقي جميعها في معطف واحد — هو معطف القصيدة، هو معطف الذاكرة.
بهذا النص، تُبرهن فيروز مخّول أن القصيدة قادرة على إعادة تشكيل العالم عبر الحنين، وأن المدن لا تُفقد حين نغادرها، بل حين نكفّ عن تذكّرها… أو نكفّ عن كتابتها.
النص الشعري:
حينَ تنامُ المُدُنُ في جيبِ مِعْطَفِكَ
لا أحدَ يعرِفُ…
كيف تُطوى العواصِمُ بينَ أصابعِكَ كخَرائِطَ مُبَلَّلَةٍ بالحَنينِ،
ولا أحدَ رأى كيف تُدَفِّئُ بَردَ المَسافاتِ بِقَبْضَةٍ واحِدَةٍ
كأنَّكَ تُشْعِلُ نَجْمًا في جيبِكَ الدّاخليِّ وتَنسى.
حينَ تَنامُ المُدُنُ في جيبِ مِعْطَفِكَ،
تَغفو الأرْصِفَةُ مُطْمَئِنَّةً
تُطْفِئُ المَقاهي أنفاسَها الأخيرةَ
وتَهْمِسُ الشُّرُفاتُ لِلرِّيحِ:
“لَقَد عادَ الَّذي يَعرِفُ أسماءَنا.”
كُلُّ إشاراتِ المُرورِ تَنْحَني إجلالًا
تَتَوَقَّفُ القِطاراتُ احْتِرامًا لِلغَيْمِ الَّذي يَتْبَعُكَ
وتَبْتَسِمُ المَصابيحُ كأنَّها تَتَذَكَّرُ وَجْهَكَ مِن حُلْمٍ سابِقٍ.
في جيبِكَ الأيسرِ —
المُمَزَّقِ بِرَعُونَةِ العُشّاقِ —
تَنامُ ستوكهولم كعُصْفورٍ مُهاجِرٍ فوقَ كَتِفِ القَلْبِ
وتَتَّكِئُ عمّانُ على أنفاسِ القُدْسِ،
أمّا دِمَشْقُ……
فلا تَنامُ.
هي تَرْقُدُ بهُدوءٍ وتَزْرَعُ الياسَمينَ في بَطانَةِ المِعْطَفِ
تَبْعَثُ بِعِطْرِها إلى المُدُنِ الأُخْرَى
كأنَّها أُمُّهُنَّ جَميعًا.
المطرُ لا يَسْقُطُ حينَ تَمُرُّ
هو فقط يُصْغي لِخُطُواتِكَ.
أمّا الزَّمَنُ….
فهو يَتَأَخَّرُ عَمْدًا كَي لا يَسْبِقَ ظِلَّكَ.
كُلُّ مَدِينَةٍ تَعْرِفُكَ بِطَرِيقَتِها:
دِمَشْقُ خَبَّأَتْكَ في وَرَقَةِ ياسَمينٍ عَلَّقَتْها خَلْفَ باب النسيان .
القُدْسُ كَتَبَتِ اسمَكَ على مِئْذَنَةٍ تُغَنِّي لِلْحِجارَةِ
تُونُسُ وَضَعَتْكَ في قَهْوَةِ الصَّباحِ
وستوكهولم زَرَعَتْكَ في شَجَرَةٍ تَنْتَظِرُ رَبِيعًا يُشْبِهُكَ.
وحينَ تَخْلَعُ مِعْطَفَكَ وتُعَلِّقُهُ على مِشْجَبِ الغِيابِ
تَتَبَعْثَرُ المُدُنُ على الأرضِ كَرَسائلَ بلا ساعٍ.
تَبْكِي الأزِقَّةُ بِصَمْتٍ
وتَسْقُطُ زَهْرَةُ ياسَمينٍ مِنَ الجيبِ…
فَتَعودُ دِمَشْقُ لِتَجْمَعَ أَشْلاءَ عالَمي مِن جديدٍ.
فيروز مخول