الطمع أفق لا ينضب: رحلة في عمق الذات البشرية

صورة واتساب بتاريخ 1446 12 22 في 16.50.16 ca1e4b89

الطمع أفق لا ينضب: رحلة في عمق الذات البشرية

بقلم الدكتورة/ لمياء موسى 

صورة واتساب بتاريخ 1446 12 22 في 16.50.16 ca1e4b89


الطمع ظاهرة إنسانية عميقة الجذور تتجاوز حدود الرغبة المادية لتلامس أبعادًا أعمق في النفس والوجود. فهو ليس مجرد شهوة تملّك أو جشع مادّي فحسب، بل هو مرآة تعكس تعقيدات الإنسان في سعيه المستمر بين الحاجة والطموح، بين الجسد والروح، وبين ما هو محسوس وما هو معنوي. لذا، يصبح الطمع موضوعًا غنيًا للتأمل الفلسفي، حيث يفتح لنا أبوابًا لفهم طبيعة النفس البشرية وصراعاتها الداخلية التي تتجاوز حدود المادّة إلى عوالم أوسع من الطموح والاحتياج والافتقار. فهل الطمع حقًا حكراً على المادة، أم أنه حالة إنسانية شاملة تمتد لتشمل أوجهًا متعددة لا تقل تعقيدًا وأهمية؟


الطمع من أكثر المواضيع التي يجد الباحثون فيها مجالًا لا ينضب للكلام، لما له من صلة وثيقة بجوانب الحياة الإنسانية كافة. فقليلون من لم يتعرضوا يومًا لشكل من أشكال الاستغلال، سواءً المادي أو النفسي، على أيدي طامعين لا يشبعهم شيء. بل إنّنا، إن تأمّلنا بصدق، قد نكتشف في دواخلنا نحن أيضًا لمحات خفيّة من هذا الطبع، في موضعٍ أو آخر من تفاصيل حياتنا.


غير أنّ السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه ليس: “هل نحن طمّاعون؟” بل: “هل الطمع مقتصر على المال والماديات كما يتراءى لأول وهلة؟”


فالطمع ليس مجرد جشع نحو المال أو تكديس الثروات، بل هو رغبة مفرطة تتجاوز الحاجة، وتلبس وجوهًا شتى:


فقد يطمع المرء في العاطفة، فيطلب من الحب ما يفوق الطاقة، ويبتغي من القرب ما يخنق الطرف الآخر. وقد يطمع في السلطة أو الجاه، فيسعى إليها بلا وازع، ولو على أنقاض الآخرين. وقد يطمع في السيطرة على تفاصيل من حوله، فيسلبهم حريتهم باسم الحب أو المصلحة أو الحكمة الزائفة.


الطمع قد يتسلل أيضًا إلى رغبة الإنسان في المعرفة أو التميز، حين تكون الدوافع متّكئة على الغرور والتفوق الأجوف، لا على النبل والسعي الخالص للنمو.


إنه، باختصار، مرض الرغبة حين تفقد اتزانها، وعطش النفس حين لا تعرف الاكتفاء.


وليس في الاعتراف بوجود هذا الجانب فينا ضعف أو عيب، بل وعي وبداية إصلاح. فالتوازن الإنساني لا يتحقق إلا حين نأخذ من الحياة ما نحتاج، لا ما نشتهي، وحين نفهم أن بعض الخسارات أنقى من المكاسب التي تُراكمها نفوس لا تعرف القناعة.

فالطمع في اللغة يحمل معاني الأمل والرجاء، ويُستعمل غالبًا للدلالة على توقع قرب تحقيق أمر ما، فيقال: “طمع فيه” أو “به طمعًا” أو “طماعًا” و”طماعيًا”. أما في الاصطلاح، فقد عرفه الراغب الأصفهاني بأنه نزوع النفس نحو شيء ما، وشهوة ملحة تحركها الرغبة والافتتان. بينما يرى المناوي أن الطمع هو تعلق القلب والبال بالشيء دون وجود سببٍ سابقٍ يدعمه، ومن مرادفات الطمع التي تتقاطع معه دلالات الحرص والجشع والشره والرتع، إذ تتشابك هذه المفاهيم لتكوّن صورة مركبة لآفة نفسية واجتماعية عميقة التأثير.

والطمع كذلك هو إرادةُ الشيءِ وطلبُ حيازته، حتى ولو كان ذلك على نحو غير مشروع. ولا يُعد الطمع كلّه شرًا كما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه الكلمة للمرة الأولى، بل قد يكون محمودًا في بعض الأمور، كالصدقة.

وهو دافع قوي يحرك الإنسان نحو تحقيق أهدافه، كما يرى الفيلسوف أرسطو حين يربط بين الطموح والرغبة باعتبارهما من مقومات الطبيعة البشرية. فالطمع المحمود يتجسد في السعي وراء العلم، وفي رغبة الإنسان في مساعدة الآخرين، وابتغاء التقوى وترك المعاصي، وهي أشكال من الطمع النبيل الذي يرفع النفس ويزكيها.



أما حين تُذكر كلمة “الطمع” بمفردها، فإنها تلقِي في النفس صورةً مشوّهةً تُحيل الأمر إلى شر محظور أو إلى نهاية مؤسفة، فذلك النوع من الطمع هو الذي يتسبب في كثير من المفاسد. فقد هدَم الطمع أواصر العلاقات، وسُفك الدماء، ووقعت الجرائم، وتحصلت المكاسب بطرق غير مشروعة بسبب المطامع. ولهذا الطمع أعراضٌ ظاهرة على صاحبه، منها الفرح المفرط، واللجاجة،والتكاثر. فالفرح المفرط هو حالة تبختٍ واختيالٍ تظهر عند تحقيق الطامع لما رغب فيه، أما التكاثر فهو الرغبة العارمة في التملك والسيطرة على ما جمعه من متاع الدنيا.

وهذا الطمع المذموم هو الذي يتحول إلى آفة اجتماعية تنشر الخراب وتدمير القيم الإنسانية، إذ كم من حروب وقعت بسبب مطامع السلطة والمال، وكم من أسر تفككت بسبب حرص مفرط على الميراث والممتلكات. يقول أفلاطون في هذا السياق إن النفس الطماعة هي النفس التي تستهلك ولا تُشبَع، لا تستريح حتى تبتلع المزيد، ما يجعلها أسيرة لشهوة لا تنتهي.


من هنا، يمكننا القول إن الطمع ليس مجرد رغبة جامحة في المال أو الممتلكات، بل هو حالة نفسية معقدة تتداخل فيها المشاعر والغرائز مع المعتقدات الاجتماعية والثقافية. وعندما يُستغل الطمع بشكل سلبي، فإنه يتحول إلى قوة مدمرة، لكن عندما يُوجَّه وعي الإنسان نحو فهم طمعه وإدارته، يصبح دافعًا نحو النمو والتطور الإنساني.

إن وصفة الطمع تجلب العداوة وتزرع الشقاق بين الناس، فلا نجد الطمع أبدًا في الأمور التي يحبها الناس ويتبادلونها بمحبة ورضا. يظهر الطمع جليًا في الأقوال والأفعال، مؤكّدًا أنه صفة تُرتبط بالحرص المفرط على متاع الدنيا، وتجاهل الحساب والجزاء في الآخرة. 


يُشبَّه الطمع في فلسفة النفس بالنفس التي لا تشبع، وهو أصل الحسد والبخل والضغائن التي تفسد العلاقات الاجتماعية وتزرع العداوة والخصومة. فقد قال الفيلسوف أرسطو في “الأخلاق النيقوماخية”: “الجشع حالة من المرض الروحي، حيث يطمع الإنسان في امتلاك ما لا حاجة له به، وهو أبعد ما يكون عن الاعتدال والوسطية.” ومن صفات الإنسان الطماع أنه يسعى دومًا إلى المزيد، حتى وإن كان ذلك بلا ضرورة أو حاجة، يرغب في امتلاك كل شيء دون عناء أو جهد، متسمًا بالجشع والغيرة التي تقتل راحة النفس وطمأنينتها.


في التاريخ، نجد مثالاً صارخًا في شخصية الملك ميداس، الذي طمع في الذهب حتى تمنى أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب. انتهى به الأمر إلى فقدان القدرة على التمتع بحياته، إذ لم يستطع حتى تناول الطعام أو معانقة أحبائه. هذا الأسطورة تعكس بوضوح كيف أن الطمع المحموم قد يقود إلى الهلاك والدمار الذاتي.


في الأدب، نرى صورة الطمع في شخصية ماكبث في مسرحية شكسبير، الذي دفعه الطمع والغيرة إلى سفك الدماء والتنكيل، محاولًا بسط نفوذه على المملكة، لكن الطمع جلب له السقوط والدمار النفسي والمعنوي.


التعامل مع الإنسان الطماع ليس بالأمر السهل، فهو قد يخدع الآخرين بمظهره الظاهري، لكنه داخليًا يحمل توقعات مبالغًا فيها وأنانية، يتهرب من المسؤولية ويهوى التكديس والتراكم بلا حكمة، ويتهجم على الآخرين متهمًا إياهم بالبخل، ولا يملك من التعاطف والرحمة إلا القليل. إن تعامله يجعل من الحياة معه صراعًا دائمًا، يخلو من المودة والصدق، ويزرع الخوف والريبة في النفوس.


ولعل في نهاية المطاف، يكمن السبيل إلى تجاوز هذا الداء الروحي في التوازن والاعتدال، كما يؤكد الفيلسوف سقراط حين يقول: “اعتدال النفس هو مفتاح السعادة، والطمع هو العدو اللدود لهذا الاعتدال.”

وفي ختام هذا التأمل، نُدرك أن الطمع ليس مجرد نزوة نفسية عابرة، بل هو مرض روحي يعصف بتوازن الإنسان ويهدد أواصر المحبة والوئام بين بني البشر. إن مواجهة الطمع تتطلب شجاعة الاعتراف بحدود النفس والالتزام بسلوك الفضيلة التي تنبثق من الحكمة والعدل. فكما أن الجشع يُفقد الإنسان راحته ويقوده إلى العزلة والخذلان، فإن الاعتدال والتواضع يفتحان له أبواب السكينة والسلام الداخلي. لذا، فالحكمة تكمن في أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، ونزرع في قلوبنا اليقين بأن السعادة لا تُقاس بما نملك، بل بما نُشارك، وأن الحرية الحقيقية تبدأ حين نتحرر من قيود الطمع وجشع النفس، لنعيش بصفاء ونقاء، متناغمين مع ذواتنا ومع العالم من حولنا.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *