
" في مرآة اللامنتمي: قراءة ذرائعية في القصة النفسية (اللامنتمي) للكاتبة المصرية رانيا ثروت"
بقلم الناقدة الدكتورة/ عبير خالد يحيي

مقدمة
ينتمي نص “اللامنتمي” للكاتبة رانيا ثروت إلى جنس القصة القصيرة النفسية الاجتماعية، ويشكّل نموذجًا معاصرًا لكتابة تيار الوعي القائم على المونولوج الداخلي.
في هذا النص، نتلمّس بؤرة فكرية مشبعة بالاغتراب والسخط الوجودي، حيث تغوص الذات الساردة في أعماق واقع اجتماعي مختلّ، يكشف عن تحلل القيم وتواطؤ الضمير الجمعي.
تسير القصة على خيط دقيق بين الواقع والهواجس، وتُفعّل أدوات الرمز والإيقاع النفسي لرسم مناخ من القلق والخوف والتفكك الداخلي.
هذه القراءة تسعى إلى تفكيك مستويات النص من منظور النقد الذرائعي، مركّزة على البؤرة الفكرية، الخلفية الأخلاقية، المستوى الرمزي، الأسلوب السردي، والمستوى النفسي.
كما ينتمي إلى القصة القصيرة النفسية الاجتماعية، مكتوبة بأسلوب المونولوج الداخلي، مع حضور تيار الوعي (Stream of Consciousness)، حيث نتابع تدفّق أفكار الشخصية الساردة في حالة من القلق واللايقين، والحدّ الفاصل بين الواقع والهواجس يكاد ينكسر.
النص يشتبك مع الواقعية القاتمة (Dark Realism)، وفيه ملمح من العبث و اللامنتمية (وهو العنوان)، مما يمنحه أيضًا صلة مع تيار الوجودية في الأدب.
البؤرة الفكرية
البؤرة الفكرية هنا تدور حول اغتراب الذات عن محيطها الأخلاقي والاجتماعي.
الراوي يعيش في حي فاسد أخلاقيًا، حيث الجريمة والمخدرات والانحلال الأخلاقي متفشية، في ظل صمت اجتماعي متواطئ.
“كما انطفأت ضمائر الناس منذ زمن”
“يتظاهرون بالجهل في بله متعمد”
الرؤية الوجودية الحاضرة في النص واضحة: سخط على اللامبالاة الجمعية، شعور بالوحدة واللاانتماء، وبالتالي، انفصال الوعي الفردي عن المجتمع.
كل ذلك يُرسّخ بؤرة اللامنتمي الذي يراقب الانحدار من دون القدرة على التدخل.
الخلفية الأخلاقية
الخلفية الأخلاقية تقوم على تناقض صارخ بين القيم المأمولة والواقع المنحطّ:
صمت المجتمع مقابل الجرائم اليومية.
تواطؤ ضمني (الخوف، شراء حماية زيكو بالنفحات).
تسليع الإنسان: بنت تُباع على التيك توك، ديلر يبيع السمّ، سميحة تبحث عن حب زائف.
انهيار صورة الأب الحامي (جلال) إلى مجرد محافظ على الواجهة.
هناك أزمة ضمير كبرى، والراوي يدرك هذه الأزمة ويحاول الهروب منها أو مواجهتها.
“لا تقنعني أيها العقل الملوّث أنهم لا يعلمون”.
هذا التمرد الأخلاقي عند الراوي يبلغ ذروته في آخر النص حين ينقلب إلى عنف رمزي: الابتسامة المرعبة مع السكين.
المستوى الرمزي
النصّ ثريّ بالرموز:
الليل الهادئ كسكين مسنون → ترميز لحالة الكبت تحت السطح، ظاهر السكون يخفي العنف.
درجات الرخام البيضاء → وهم البراءة والصفاء الظاهري الذي يخفي الجريمة.
الشارع المظلم وانطفاء المصابيح → انطفاء القيم، انسحاب النور من الفضاء الأخلاقي.
زيكو ككائن هلامي → البلطجة المتجذّرة، السيولة الأخلاقية.
السكين في يد الراوي في النهاية → تصعيد داخلي للعنف؛ السكين كامتداد رمزي للضغط النفسي.
حتى الأسماء تحمل دلالات:
“عطية الديلر” → كناية عن تاجر الموت.
“زهرة” → رمز البراءة المهددة.
التقنيات السردية
تقنية المونولوج الداخلي، حيث يُكتب السرد بضمير المتكلم.
الزمن النفسي هو المهيمن: القارئ يعيش مع الراوي لحظة واحدة مشحونة، تمتد داخليًا إلى استعراض تاريخ الشارع وساكنيه.
لغة مشحونة: استخدام جمل قصيرة، مقاطع سريعة تعكس القلق الداخلي.
تشظّي الوعي: “أمزق أوصال… لا أعرف أوصال من؟!” — كسر السرد التقليدي.
الأسلوب فيه تداعي أفكار (free association)، كما في النصوص النفسية.
وهناك توظيف للكوميديا السوداء أحيانًا:
“لأنه آمن يوما بالثو…بالثور… بأنه برج الثور…”.
المستوى اللغوي
اللغة مزيج بين الفصحى البسيطة والتعبير الشفاهي المحلي (مما يقوّي الطابع الواقعي الاجتماعي).
إيقاع سريع، يتناسب مع قلق السارد.
أحيانًا، تكرار لفظي هوسي:
“العجز… العجز…”
“مستحيل أن أقتلها… مستحيل أن أقتل زهرة”.
الانزياح الدلالي: تحويل أشياء عادية إلى علامات مرعبة (الدرجات الرخامية البيضاء مثلًا).
المستوى النفسي
النصّ يكشف عن سارد في حالة تفكك نفسي تدريجي:
يبدأ بالقلق والارتجاف والهروب.
يدخل في نوبة استرجاع (Flashback) لمصائب الشارع.
يتجادل مع “العقل” في حالة من الانقسام الداخلي (Dialogic Self).
يظهر في النهاية نزوع نحو العنف الهذياني (لمعة العين + السكين).
هكذا تتحوّل اللامنتمية من حالة فكرية إلى حالة فعلية خطيرة.
المستوى التداولي
الخطاب موجّه ضمنيًا إلى القارئ الشاهد، مع كسر الجدار بين السارد والقارئ:
“أتعرف يا عقلي السخيف من يستحق القتل؟”
(وبعدها يتركنا أمام علامة استفهام مرعبة).
النصّ يُراهن على تأثير الصدمة النهائية، ويحرّض القارئ على مراجعة الموقف الأخلاقي من التواطؤ الاجتماعي.
الخلاصة
نص متقن جدًا في رسم مناخ القلق النفسي والاجتماعي، فيه قدرة على إدارة الإيقاع الداخلي، ويقدّم صورة قاتمة لمجتمع منهار القيم، عبر سارد لامنتمي يحمل مرآة سوداء للواقع.
نقاط القوة:
البنية النفسية.
التكثيف الرمزي.
تيار الوعي.
صدق المناخ الاجتماعي.
ملاحظات تحسين (كما رغبتِ القاصّة):
يمكن تنظيف اللغة من بعض الفواصل المتراكبة والأقواس التي تُربك الإيقاع.
المشهد الأخير يمكن تعميقه بجملة إضافية: “شقت السكين الهواء كأنها…”.
لو أضفتِ مشهدًا حسيًا بصريًا أو صوتيًا أقوى في البداية (صوت السكين مثلًا)، سيتماسك الجو أكثر.
خاتمة القراءة:
يقدّم نص “اللامنتمي” تجربة سردية لافتة في بناء مناخ نفسي واجتماعي قاتم، حيث تتحوّل اللامنتمية من فكرة فلسفية إلى حالة شعورية حادة، مسنودة بتقنيات المونولوج الداخلي وتيار الوعي.
عبر تراكم الرموز القاتمة، وتدوير مفارقة الصمت/السكين، يُعرّي النص آليات الانحطاط الاجتماعي، ويصوّر هشاشة القيم أمام جبروت العنف المسكوت عنه.
وبين الوعي الممزق والعجز الفردي، يندفع السارد إلى نهاية مفتوحة مشبعة بالتوتر، تُبقي القارئ متسائلًا: من حقًا يستحق القتل؟
بهذا، تتجلّى في القصة قدرة الكاتبة على مزاوجة البنية النفسية بالطرح الأخلاقي في سرد مكثّف، يُحفّز على التأمل العميق في راهن الإنسان المعاصر.
النص:
(أرحب بالنقد )
اللامنتمي
ليل هادىء؛ ساكن؛ كسكون سكين مسنون، انسل ممزقا أوصال …لا أعرف أوصال من ؟!
لايهم …
المهم أن صمت السكين القاتل خلف ضجيج دماء لا ينتهى، صخب في رأسي،أزهق روحى …
عدوت على درجات السلم تتقافز دقات قلبى وكأنها تحاول أن تسبقنى إلى الشارع، أرتجف كعصفور مبتل على سور شرفة معدنى ، صفعتنى برودة الهواء ، فأدركت أننى أتصبب عرقا .. أو دما ، لا أدرى!!
شارعنا مظلم ..تنطفيء مصابيحه (المكسور معظمها) كل ليلة، كما انطفأت ضمائر الناس منذ زمن، خصوصا من يسكنون شارعنا .
فبالرغم من معرفتهم بما يحدث فى الظلام كل ليلة، إلا أنهم لا يكترثون ويتظاهرون بالجهل فى بله متعمد .
يستمعون إلى الأخبار ثم يناموا ليستيقظوا مبكرا ، المهم عندهم ألا يحدث ما يوقظهم ، أو يحدث جلبة تزعجهم .
ربما لا يعلمون !!!
لا؛ بل هم يعلمون..
أتحاول تضليلى أيها العقل المخادع؟
هل تحاول أن تقنعنى أنهم لا يرون” عطية الديلر” وهو يبيع الوهم المسموم لأصحاب السيارات ذات الزجاج “الفيميه” و الأرقام الخاصة والموسيقى الصاخبة والضحكات الرقيعة على ناصية الشارع .
أو أنهم لا يعرفون ما تفعله “سهام “بنت عم فتحى الحلاق فى بئر السلم وعلى منصة التيك توك لتتقاضى بعض المال ،الذى تكمل به ميزانية الشهر ،تلك الميزانية التى أصبحت لا تكفى شيئا والتى يعطيها لها والدها لتدبر أحوال المنزل بعد وفاة والدتها، لتنفق عليه وعلى إخوتها الخمسة دون أن يعلم ، حتى لا تشعره بالعجز !
العجز … العجز…
ذلك العجز الذى دفع” سميحة” لمحاولة بائسة لخيانة زوجها “جلال ” إلكترونيا والتى باءت بالفشل سريعا لاكتشافها أن سبع البرومبة “وحيد” لم يكن الحبيب المنشود وهى قصة حبه الوحيدة كما صور لها ، بل كانت لا تعدو كونها فصلا من فصول رواياته العديدة، ومحادثة من ضمن آلاف المحادثات لا أكثر ولا أقل .
ومالم تعلمه سميحة أن “جلال” رأى إحدى تلك المحادثات إلا أنه أبى أن يتخذ أى موقف حفاظا على صورته أمام الناس وأمام نفسه ، وأسر لى بذلك فى لحظة انهيار وضعف .
كلهم كانوا يعلمون ذلك عن” وحيد “وحدها سميحة لم تكن تعلم سوى أنه فرصة أفلاطونية للحياة والحب حتى لو كانت فرصة وهمية فاسدة .
وذلك الشاب المسكين الذى ضربه أحدهم حتى الموت (مع أن أحدهم هذا معروف) وتركه جثة هامدة على الدرجات الرخامية البيضاء لمنزله لأنه آمن يوما بالثو…بالثور …بأنه برج الثور …ربما نطح أحدهم بقرنيه هههههههههههه
أو ربما كسر قرونا لثيران أخرى …
وذلك البغل المسمى” زيكو” السرسجى بقميصه الأبيض قصير الكم المتسخ دائما وبنطاله الچينز الأزرق الأمريكي المتهلهل ، ذلك الزيكو، الذى لا يمت للكائنات البشرية بصلة سوى التشريح الفسيولوجى؛ فهو كائن لزج هلامى ،حدوده مؤطرة بسلسلة من الحديد و “سفوريا” كما يطلقون عليها ، لا شغل له سوى الانتظار فى الظلام “ليثبت “هذا ويحصل على ما معه عنوة ويعاكس تلك ويتلفظ بكلمات نابية يعتبرها دلالة على الرجولة والذكورة ،ويتحرش ببنات الحي على مرأى ومسمع من الجميع .
الكل كان يرى ذلك ويغض البصر ، خوفا من زيكو وأفعاله السافلة .
بل على العكس كانوا يتقربون منه ويمنحونه” النفحات ” لاتقاء شره و لنيل حمايته من نفسه.
لا تقنعنى أيها العقل الملوث أنهم لا يعلمون، لأننى لن أصدقك .
كما لم أصدقك عندما صورت لى ذلك الوهم السخيف
بأننى أقتل ابنتى الوحيدة …لن أصدق تلك الرؤيا.
صحيح أننى أخاف عليها من سم عطية الديلر و أخلاق سهام و سذاجة وضعف سميحة وغواية وخداع وحيد وطيبة وسلبية زوج كجلال وبلطجة وسفالة زيكو ولن أقبل أن أراها ملقاة على درجات البيت الرخامية البيضاء مقتولة لأنها آمنت بأى شيء ، مع أننا لا نمتلك درجات رخامية بيضاء .
نعم أنا أخاف عليها حد الرعب لكن مستحيل أن أقتلها… مستحيل أن أقتل” زهرة “
أتعرف يا عقلى السخيف من يستحق القتل ؟
_لمعت عيناه وابتسم إبتسامة مرعبة وهو يشق طريقه وفى يده السكين .
رانيا_ثروت