
أحمل العالم بأسره في طريق أحلامي
بقلم الأستاذة / ذكرى زيد

كأنني أسير في دهاليزِ الأيامِ ذاتِها كلَّ أسبوع؛ لا شيء يتبدّل سوى وجهي المُنعكس على نافذةِ السيارةِ الباردة، كلَّ سبتٍ وكلَّ أربعاء، حين أُغادر مدينتي الصغيرة نحو وجهتي.
أحمل حقيبتي الصغيرة وكأنني أحمل العالمَ بأسره. أُرتب كتبي وكُرّاساتي، وأضع بينها قلبي المتعب، وأحشو الفراغاتِ بينها بأحلامي المؤجّلة.
أتنفّس بعمق قبل أن تنطلق السيارة؛ أدرك أن الطريق طويل، لكنه ليس أطولَ من قائمة الأمنيات التي أسردها في رأسي كلّ مرة.
الطريق ذاتُها، المنعطفات ذاتُها، المحطّات ذاتُها، والوجوه العابرة التي لا تتغيّر ولا تلحظ مروري ولا تذكُرني.
كلّ شيءٍ متكرّر، إلّا قلبي، الذي يفيضُ كلّ مرّةٍ بمزيجٍ من الحنينِ والخوفِ والتصميم.
أجلسُ قرب النافذةِ كعادتي، أترك رأسي يستندُ على الزجاج البارد، كأنني أستودعُ كلّ ما فيّ من تعبٍ لذلك الزجاج.
أنظر من خلاله إلى العالمِ الذي يمضي من حولي بلا هوادة.
تمرُّ الذكرياتُ كأنها مشاهدُ فيلمٍ قديمٍ أعرف نهايتَه مسبقًا، أستعيدُ ملامحَ أوقاتٍ سابقة، وجوهًا من غابوا فجأة، ضحكاتِ الطفولةِ التي ما زالت تسكنني، رغم محاولاتي المستمرة في إقناع نفسي أنني كبرت.
يرافقني صوتُ الموسيقى في أُذنيّ، لكنه لا يغلبُ صوتَ قلبي، الذي يُحدّثني عن الغد، عن الطريق الذي اخترتُه كي أبلغَ نورَ الحُلم.
أُسافر، وفي داخلي مدينةٌ كاملةٌ من الأمنيات.
أدرُسُ كي أُحسِّن لغتي، لغتي التي صارت جسرَ عبورٍ إلى عالمٍ أوسع.
أتمسّك بحروفي الإنجليزية كأنني أُمسك بطوقِ نجاةٍ وسط بحرٍ عميق.
أعلم أنني لا أدرسُ من أجل شهادةٍ فحسب، بل أدرسُ كي أفهم العالم، كي أُترجم حزني إلى كلماتٍ أُخرى، كي أكتب نفسي من جديد بلغةٍ قادرةٍ على مواساةِ قلبي.
أحفظُ المصطلحاتِ والمفردات، وأُردّدها في سرّي كأنها صلوات.
أُراجعُ القواعد كأنني أُعيدُ ترتيبَ ملامحِ رُوحي.
أكتُب الجملَ الطويلة كأنني أكتُبُ قصتي السريّة التي لا يعرفها أحد.
وحين يطولُ الطريقُ أكثر، أترك رأسي على الزجاج، وأُغمِضُ عينيّ، أتركُ السيارة تمضي بي، وأتركُ قلبي يتنقل بين المدن كما لو أنه يبحث عن شيءٍ مجهول.
وحين أَصِل، لا أَصِلُ وحدي؛ أصلُ برفقةِ كلّ تلك الأفكارِ التي عاشت معي طوال الطريق.
أنزل من السيارة وكأنني أنزعُ عني عباءةَ المسافة.
أمشي في الطرقات وأشعر أنني لا أنتمي إلّا لتلك اللحظات التي أكون فيها طالبةً تبحث عن ذاتها بين الكتب والمحاضرات.
أعلم أنني لستُ وحدي؛ هناك شيءٌ في داخلي يُرافقني دائمًا، شيءٌ يقول لي: إنَّ هذا التعب سيزهرُ يومًا، وإنني سأحكي لنفسي لاحقًا عن هذه الأيام، كأنّها أجملُ حكايةٍ عشتُها يومًا.