
النور مفردة للمعنى والدلالة في ديوان "في ظلال النور" للشاعرة ريما آل كلزلي
بقلم دكتورة / زرياف المقداد

بين ضفتي الديوان 35 قصيدة، اختبأت الشاعرة وراءها ليست مظللة للقارئ، بل مبتسمة وهي تراقب حركة النور من خلال تداعيات الكلمة والظلال في النصوص صعودًا وهبوطًا، وفي عين وعقل القارئ في عناوين معلنة. هي حكاية النور، مرايا النور، في ظلال النور، إلهام النور، النور والظلال، وأخرى مضمرة، كلها حكايات للنور.
عادةً عندما يغريك نص ما بالقراءة، فأنت تبحث عما يشجيك باللحن فيه وبالموسيقى الداخلية. وتدرك في لحظة ما أن هناك ورطة عليك تجاوزها، فأنت كقارئ لن تنجرف وراء اللحن الذي يبدو للوهلة الأولى هو مفتاح النصوص، بل عليك أن تبحث عن ما وراء أكمة الموسيقى لتجد قامة اللغة. وقد تسامت نحو العلا وبدت مطواعة بيد الساحرة، تمضي بلا قيد ولا شرط حين تدعو للرعد لغة، وللضوء أزميلاً، وللنور مرآة.
والموسيقا الشعرية في نصوص هذا الديوان تجلّت في مفردة الضوء، الذي أمسك بعصا السحر وترك أثره للمتلقي . وكل حسب ليلاه
لا أدري أي ورطة انتابتني وأنا أقرأ النصوص. في كل مرة أعود محاولة التدقيق؟ ترى ما السر وراء هذا الانسياب الخلاب رغم كم الفلسفة المعرفية التي تطرحها النصوص عن الوجود والعلاقات الإنسانية؟
ريما عادة كاتبة لا تعلن عن مرادها في نصوصها مباشرة وهي لا تستر خلف منظمة معرفية تجبر القارئ عليها بل هي تسوق مفردات المعرفة وخاصة النفسية للقارئ وتتركه يلج متن القراءة كي يشعر بالنشوة باكتشاف المعرفة.
فالدهشة والحيرة والقلق والبلاغة في مدارات اللغة، ومرايا النور وظلاله، والسماء ببعدها الثالث، وصلاة الماء… كلها تتوه في ظلال النور.
فهي تطرح جدلية ستبدو غير منطقية للوهلة الأولى ما بين المادي والنوراني الشفاف، ولكنها تتبعها بتسلسل قائلة
الشعر توهجت معانيه في ظل حكاية
غاربة
كأجنحة فراش يجذبها النور
الأرواح فنادق تعج بالنسخ المقلدة
من يحاسب من؟ (ص 17)
صفحات الأنا العتيقة
تشرق في بلاد أجهضت نوافذها
من يعاتب من.. (ص 18)
من يحارب من
يحاسب من
هذه التساؤلات المعرفية في متن القصيدة/النص إعادة ضرب بالمعول في عقل القارئ.. فالحساب ثم العتاب ثم الحرب ثلاث متواليات غير متسلسلة منطقيًا، ولكنها باعتقادي/ كقارئة / تشير هنا إلى عدم منطقية مجريات الأحداث. وهذا طرح يُخشى على القارئ من ضياع بوصلته، ترى ماذا تقصد الشاعرة هنا؟
هل تقصد ان تدخل قارئها في التيه؟ أم انّ عليه ان يعبر التيه كي يصل الى المعرفة؟
إنها تعيد التساؤل إلى عمقه في العنوان الذي مهرته ب” هويّات ” وللقارئ حرية الإجابة بعد العتاب وليس بعد الحرب.
النور في الديوان ما بين فلسفة المفردة ومعانيها وتأويلاتها وتوظيفها في النصوص، هل هو فعل انسيابي كما الماء في القصائد؟ أم أنه فعل مدرك تعيه الشاعرة وتقصده؟ وفي كلتا الحالتين نحن أمام إجابة تخدم وظيفة النور التي اختارتها الكاتبة.
فلا يكاد يخلو نص من نصوصها من هذه المفردة، ولكن عندما حاولت تتبع الحامل وجدت في كل مرة يختلف عن الأخرى، ليغدو النور متأرجحاً بين الفيزيائي للضوء والروحي للنور وأثره.
• “كأجنحة فراش يجذبها النور” (ص 17)
• “أعيدي لي أجنحتي لأحلق بعيدًا تحت نور القمر” (ص 20)
• “في رتل العادات السيئة
طوفان قصص يغرقها البكاء
والكتاب لوح منقوش بإزميل النور” (ص 31)
• “أي نور.. ذاك الذي توارى خلف الكلام؟” (ص 45)
• “فأنا أسير بين الرياح في كل مساء أنقب عن النور” (ص 48)
• “وأنت الذي علمتني أن الحي نور في ذاته
ونار تنام في الذوات” (ص 64)
وتوجتها في نصها الموسوم “في ظلال النور”:
(ص 45)
أوقدُ قنديلي للنور
على مواقد اللهيب…
ولأنه كسر قلبي
لن أخبر أحدًا عن رغبات قصائدي…
في هذه الجملة أدركت أن ريما تحمل مشعلًا من نور ليكون نارًا تحرق، نورًا يضيء، نورًا ليستدل به على الطريق، نورًا لها ومنها ليدرك المقترب منها أنه عليه ولوج بوابات النور السبع حتى يصل إلى مفردة السؤال ويتوه في البوابات السبع الأخرى ليشرف على بوابة الجواب، ولن يصل، فالمتاهة في المعرفة.
ريما شاعرة تحتفظ بالمعنى والدلالة في العمق، وليست سخية في تركها سهلة بين يدي القارئ، لأن الكتابة عندها فلسفة خاصة. هي من يقرر متى تفك رموزها.
وهي تؤكد ذلك حين قالت في نصها “النور والظلال”:
لا شيء يؤكد أن العالم ملك لي
حتى أرى انعكاس روحي فيه
فمن أين لي بأثر
والضوء بلا ظلال
أتوق إلى المعنى…
إلى أن تصل إلى النص الذي مهرته “حتى يزهر المعنى” (ص 119)، تقول:
دع الوقت لي
قبل أن تفصح عما خططت
فلا الغيمة تمطر بفعل المد
ولا الموج معني بالجزر بعد مضي الحبر…
دعني أوضح كيف ينسج الحلم من عبير الزهور
وكيف تخلق القصائد ظلالها من أجنحة النور.
وربما أدعي أنني وقفت على إشارة ذكية منها في نص “/اقتران مهيب” (ص 105) حين قالت:
وحين يلتقي الضوء والسراب
تشعل القصائد فوق العروش
زمن احتكاك حروفها
تتكون النيران…
فهي هنا تريد أن تؤكد تلك الجدلية القائمة في كينونة الضوء، هل هو حقيقة أم سراب؟ ولماذا؟ هذه الجدلية أسقطتها على العلاقات الإنسانية إذ تقول: “ما الحب إن لم يكن رسالة ماء إلى تراب.”
ختامًا، ربما أكون قد ظلمت الديوان في الوقوف على جدلية الضوء في المعنى والدلالة ما بين الظاهر والمضمر، ولكن في الوقت نفسه أدرك أن كل نص كان فيه ما يمثل موقفًا وحدثًا تجلى النور فيه بوضوح، فأضاء حالة الشعور بعمق وحرك معول الأسئلة في نفس الشاعرة. أتوق حقًا لقراءة أخرى وأعتقد أنها ستكشف لي جوانب أخرى من تلك النصوص.