
ناقدة وحكاية
الكاتبة والناقدة/ أمينة الزغبي

حكايتنا اليوم مع رواية “الحجر العاشق”
للأديب أحمد فضل شبلول تحت عنوان: “ثلاثية العشق وأنسنة الأشياء”
بعد النجاح الكبير لروايته الأولي” رئيس التحرير” ليس على مستوي مصر فقط، لكن على مستوي الوطن العربي أيضًا، أبدع الأستاذ أحمد فضل شبلول ثلاث روايات، قدم فيها للقارئ سرد ممتع، قام فيه بتضافر الغرائبي بالواقع، مما يدفع القارئ إلى الدهشة، والمتعة في نفس الوقت، أولي هذه الروايات بعنوان “الماء العاشق” صدرت عام 2018، قام فيها الأستاذ أحمد بأنسنة الماء، ومنحه القدرة علي التحدث، والتصرف، والتفاعل مع البشر، وقد اتخذ من الجانب الشرقي للإسكندرية فضاءً مكاني لسرده، خاصة منطقتي سيدي بشر، وبئر مسعود، وقد تجلت روح الأسطورة في هذه الرواية بصورة تمنح المتلقي الكثير من الدهشة.
أما الرواية الثانية “اللون العاشق” والتي صدرت عام 2019، وهي سيرة غيرية للفنان التشكيلي العظيم محمود سعيد، حيث استطاع الكاتب الأستاذ أحمد فضل أن يكشف الكثير من الجوانب الإنسانية عن هذه الشخصية التي تحمل الكثير من الرقي، والأصالة، والرؤية الفنية المميزة، والتي وضعته بين مصاف أكبر فناني القرن الماضي، ليس في مصر فقط، بل في العالم أجمع، كذلك منحت الرواية للمتلقي مساحة شاسعة للتعرف على الحياة العائلية لهذا الفنان المبدع، وتعلقه باللون الأزرق الذي طغي على الكثير من لوحاته الفنية المميزة.
ثم نأتي للرواية الثالثة “الحجر العاشق” التي صدرت عام 2020، وهي عبارة عن مواجهة بين الخيال العلمي، والخرافة، والأساطير، وهي تمثل حجر الزاوية في ثلاثية العشق في الإنتاج الروائي للكاتب الأستاذ أحمد فضل شبلول بعد “الماء العاشق” و”اللون العاشق”.
رواية الحجر العاشق:
منذ العتبة الأولي للنص وهي (العنوان) سنجد أن أنسنة الأشياء المتمثلة هنا في الحجر واضحة وصريحة، بل وتشي للقارئ بأن العشق الذي تدله فيه الماء واللون سابقًا، سيهيم فيه أيضًا الحجر ويصير عاشقًا، فهل المقصود هنا بالحجر العاشق العشق بمعناه الذي نعرفه وهو: عجب المحب بمحبوبه، أو إفراط الحب.
أم أنه المعني الفيزيقي الذي أطلقه الصينيون على المغناطيس لشدة جذبه للحديد، فأطلقوا عليه اسم (تشو ــ تشي) وهو بالعربية يعني (الحجر العاشق) وخاصة أن الكاتب قد نوه في مقدمة الرواية أنها تمثل (المعلوماتية والخيال العلمي في مواجهة الخرافة والأسطورة) لكننا سنكتشف بعد القراءة أن المعني الأول هو المقصود، والذي أبدع الكاتب/ السارد في اختياره.
الحبكة وتقنية السرد:
تيمة السرد في الرواية هي “الخيال العلمي” حيث تدور الرواية في جو من الغرائبية والخيال العلمي، والتضافر بينهما، وبين الواقعي، وذلك في تناص سردي مع حكايات ألف ليلة وليلة، وخاصة حكاية “علاء الدين والمصباح السحري”.
تحكي الرواية عن “الحجر الكريم زمرد” الذي وُضع في إطار ذهبي بإصبع عالمة فيزياء مصرية هي الدكتورة منال عثمان، والذي أهدته لها جدتها الدكتورة فتحية الشال، وقد اكتسب وعيًا تدريجيًا بعد أن نشأت بينه وبين الدكتورة منال علاقة عاطفية، وحينما لاحظها زوجها غار وثار على زوجته وشكي لجدتها، وتحكي الجدة حكاية هذا الحجر الذي عثرت عليه أمام حِجْر إسماعيل أثناء قيامها بأداء مناسك الحج، والتي نصحها الحجر الأسود أن تأخذه وتحتفظ به.
هنا يدرك القارئ أن الكاتب استطاع أن يجعل من الحجر الكريم كائن حي، يشعر، ويُحب، بل ويصل الأمر إلى غيرة الزوج منه، وذهابه إلى الجدة للشكوى.. وهو نوع من تأكيد الكاتب علي منطقية الحدث، وجذب المتلقي للمتابعة، ومعرفة ما سوف تؤول إليه الأحداث، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
استطاع علماء جامعة روتشستر للعلوم والتكنولوجيا في نيويورك التوصل إلى حجم الوعي الذي يمتلكه “الحجر الكريم زمرد” بعد أن عاش آلاف السنين، وبعد قصة الحب التي عاشها في إصبع الدكتورة المصرية منال عثمان، فاكتسب وعيا حجريا وبشريا معًا فاق أي وعي يمتلكه الإنسان، ولذلك قرر علماء هذه الجامعة إجراء تجربة علمية فريدة ومثيرة في العالم، وهي نسخ محتويات دماغ زمرد، إلى دماغ قرد ودماغ (إنسان آلي) ودماغ إنسان عادي، ولرغبة الدكتور علي خليل زوج الدكتورة منال في السفر إلي أمريكا، قام بتقديم رغبته كي يكون هو الإنسان الذي يُنسخ إلى دماغه وعي زمرد، وقد حدث هذا بعد أن لاحظ علماء جامعة روتشستر للعلوم والتكنولوجيا في نيويورك تحول لون الشبكات والمواقع الشهيرة، إلى اللون الأخضر، بدلا من اللون الأزرق، وبعد أن اكتشفوا أن مصدر هذا اللون هو جهاز لاب توب خاص بالدكتورة منال عثمان التي تعيش بأحدي محافظات مصر وهي الإسكندرية، يعرض مدير جامعة روتشستر علي الدكتورة منال مبلغ مليون دولار أمريكي في مقابل قبولها لعملية النسخ، لكن جهاز الموساد يعرض عليها 12 مليون دولار في مقابل اعطاءه الخاتم ذو الحجر الزمرد، لكنها ترفض وتختار عرض مدير جامعة روتشستر بشرط أن تتم العملية في فرع الجامعة في دبي.. تنتهي الرواية نهاية مفتوحة لتطرح تساؤل يقول:
هل ستنجح تجارب نسخ الوعي الزمردي هذه أم ستفشل؟
هل الوعي البشري ممكن أن يُستنسخ كما تُستنسخ الجينات البشرية للإنسان؟
ومن الملاحظ أن رواية “الحجر العاشق” هي بالفعل حجر الزاوية لثلاثية العشق التي أبدعها الأستاذ أحمد فضل شبلول، كما ذُكر على ظهر غلافها، فنجد على سبيل المثال هناك رابط في السرد يربطها برواية “الماء العاشق” حيث يتمتع زمرد (الحجر) بخاصية تجعله يستطيع التواصل به مع طيف صديقه عمر ياسين” بطل الرواية الأولي “الماء العاشق” فنجد الراوي المشارك “زمرد” يقول:(أريد أن أخرج من هذا الحزن وأغادره، في تلك اللحظة زارني طيف صديقي عمر ياسين، فاستأذنت من الدكتورة منال أن تطلقني من إصبعها لزيارته..) ص 102
ثم يسترسل في نفس الصفحة ويقول:
(وصلت إلى شقة عمر ياسين بالدور الأرضي المطل على بئر مسعود، وجدت هناك الماء العاشق وحده يجلس على مائدة في منتصف الصالة، وعلى الرغم من أن الشباك كان مغلقًا، والمكان معتمًا، فإنني فور دخولي وجدت إشعاعًا أخضر قويًا وإضاءة شديدة تنير الشقة).
هذا التداخل في السرد يوضح الرابط بين الروايتين، فكلاً من “عمر ياسين” الشخصية الرئيسة في الرواية الأولي “الماء العاشق” و “الحجر زمرد” الشخصية الرئيسة في الرواية الثالثة “الحجر العاشق” صديقين حميمين، بل وهناك عامل مشترك يجمع بينهما أيضاً، وهو القدرة على التخاطر، واجتياز المسافات بالتحول إلى أطياف، والتنقل عبر الزمن بسرعة تفوق سرعة الضوء.
أما إذا نظرنا إلى الرواية الثانية “اللون العاشق” فسوف نجد حضورها الطاغي، والذي فرض نفسه منذ الصفحات الأولي في هذه الرواية الثالثة ” الحجر العاشق”
فإذا كان عشق الكاتب للألوان كان جليًا في رواية “اللون العاشق” هذا العشق الذي جعله يبدع رواية عن فنان مصري عالمي، وهو المثال المصري العظيم محمود مختار، ويجعل الراوي العليم بالرواية راوٍ فنان أيضًا، هو الفنان العالمي محمود سعيد، مما حول الرواية إلي متحف للفنون، هذا العشق لم يستطع الكاتب أن يتخلى عنه في روايته الأخيرة في ثلاثية العشق هذه، فنجد اللون الأخضر هو اللون المسيطر علي الرواية، بداية بالغلاف الذي يظهر عليه حجر الزمرد الأخضر بحجم كبير، ثم يمتد هذا اللون داخل السرد ويتمدد به حتي تصطبغ كل الأشياء والأماكن به، خاصة حينما تَحرر زمرد من الإطار الذهبي.
لون آخر كان قوي الحضور داخل السرد، هذا اللون الذي كان يميز جامعة روتشستر للعلوم والتكنولوجيا، وكل ما يحيط بها حتى ملابس من يرتادها من طلاب، ألا وهو اللون البرتقالي.. نجد أيضاً إحدى لوحات محمود سعيد معلقة على الحائط في مكتب السفارة المصرية في واشنطن، ليكون محمود سعيد حاضراً بفنه وإبداعه في المكان.
الزمكان في الرواية:
كانت الإسكندرية هي الفضاء المكاني الذي تجسدت فيه أحداث الرواية، بالرغم من وجود مكان آخر مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بل أن الكاتب جعل من الإسكندرية محرك أساسي للأحداث، ومتحكم فيها، مثال ذلك:
حينما قامت ثورة 25 يناير وخرجت جموع الجماهير إلى الشوارع، تسبب هذا في تأجيل سفر الدكتورة منال إلي أمريكا، مما ترتب عليه التأخير في معرفة سبب تغير الألوان في الأجهزة الإلكترونية لفترة..
والحقيقة أن الإسكندرية لم تمثل الفضاء المكاني للسرد في الحجر العاشق فقط، لكنها أيضًا كانت كذلك في رواية “الماء العاشق”، فهو ماء بحر الإسكندرية، وبئر مسعود، وكذلك في رواية “اللون العاشق” فهو اللون الأزرق لون ماء البحر، وزرقة السماء فوقه، والذي كان يسيطر على معظم لوحات الفنان محمود سعيد، فنجده يقول في اللحظة التي حانت لرسم لوحة “جميلات بحري”
(رأيت ألوانها تجري هنا وهناك والأزرق دائماً في المقدمة) ص 8
ويقول أيضًا على لسان الراوي العليم:
(فقد تجاوزت هذا الأمر منذ زمن، بعد فضيحة الفتاة السمراء “ذات الرداء الأزرق” التي رسمتها عام 1927 بألواني الزيتية على التوال) ص 12
اتكأ الكاتب في ثلاثيته للعشق (الماء العاشق ــ اللون العاشق ــ الحجر العاشق) علي تقنيات زمنية مختلفة، حيث استند على الاستقدام تارة، والاسترجاع الزمني تارة أخري، وقد برع في تقطيع المشاهد وتجسيدها لتتحرك أمام القارئ بشكل سينمائي؛ لتضيف إليه متعة المشاهدة التي تبعده عن مواطن الملل، وتستبدلها بالاستمتاع.
اللغة: تتسم لغة الكاتب الأستاذ أحمد فضل شبلول بالسلاسة وكثرة الصور البلاغية التي تعطي للسرد جرس خاص في أذن المتلقي، حيث إن الكاتب يبدو دائمًا في حالة من التعبير بلغة شاعرية راقية، متأثرًا في ذلك بقدرته الفائقة على نظم الأبيات الشعرية الرقيقة، مما يمنح المتلقي متعة كبيرة أثناء القراءة.
نحن أمام ثلاثية عشق، كتبها عاشق للحرف بحرفية عالية، عشقه فجعله ينساب ماءً عاشقًا تارة، ثم لونًا عاشقًا تارة أخري، ثم حجرا نفسيًا يشع ضياء مملوء محبة تبعث فيه الحياة؛ فندرك جميعًا أنه “الحجر العاشق” الذي اكتملت به هذه الثلاثية الروائية الماتعة.