
العلاج بالقراءة: حين تصبح الكلمة دواءً
بقلم الدكتورة/ علياء إبراهيم

هل يمكن أن تكون الكلمة دواءً؟ وهل تستطيع قصة أو رواية أن تداوي جرحًا لا يراه أحد؟ قد تبدو الفكرة للوهلة الأولى مستحيلة أو خيالية، لكن الإنسان منذ أقدم العصور لجأ إلى الكلمة كما يلجأ قائد سفينة تتقاذفها الأمواج إلى مرسى يحتمي به.
وأقوَىٰ وأسمَىٰ ما تجلّى فيه الدور العلاجي للكلمة كان في القرآن الكريم، إذ كان أوّل ما تنزّل به الوحي على النبي ﷺ أمرًا إلهيًّا صريحًا: ﴿اقرأ﴾، لتكون القراءة أول باب للمعرفة وللهدايةِ، ونافذةً يطلّ منها القلب على النور، فيقول الله عز وجل: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء:82)
.ثم يمضي الخطاب الإلهي ليؤكد أن القصص القرآني دواء يرسّخ اليقين ويُثبت الفؤاد. يقول الله عز وجل: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]. إن قصص الأنبياء والأقوام والملوك التي ورد ذكرها في القرآن الكريم لم تكن مجرّد سرد لأحداث تاريخية، بل نوافذ تُفتح للتدبّر والتفكّر والتأمّل؛ ومنها يتعلّم الإنسان الأمل وسط المحن، ويرى في البلاء حكمة، وفي الصبر عزاءً، وفي اللجوء إلى الله ضياءً يبدّد العتمة ويفتح أبواب الأمل.
أما الحضارات القديمة فقد أدركت أثر الكلمة العلاجي، فجعلت منها سبيلًا لشفاء الجسد والنفس معًا. ففي مصر القديمة لم تكن المكتبات مجرد أماكن تحفظ الألواح والبرديات، بل عُرفت بـ «بيوت الحياة»، حيث كان النص يُعالج الروح كما يُعالج الجسد. وعند الإغريق ظهر مصطلح «بيبليوثيراپي» (Βιβλιοθεραπεία)، وهو يتكون من كلمتَين: Βιβλίον (بيبليون: الكتاب) + Θεραπεία (ثيراپيا: المداواة أو العلاج).
وفي العصر البطلمي كُتب على مدخل مكتبة الإسكندرية: «هنا يُشفى مرض النفوس». أما في تراثنا العربي، فقد وصف الجاحظ الكتاب بأنه «الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك»، كأنه يرى فيه أنيسًا للنفس ورفيقًا يبدّد الوحشة والوحدة.
وفي العصر الحديث، التفت الأطباء النفسيون — منذ بدايات القرن العشرين في أوروبا وأمريكا — إلى ما سُمّي بالقراءة الموجَّهة، فاستُخدمت كوسيلة علاجية للقلق والاكتئاب والصدمات. وأثبتت دراسة منشورة في (Journal of Poetry Therapy، 2016) أن قراءة النصوص السردية تقلّل من مستويات القلق وتزيد القدرة على التعبير عن المشاعر، كما أكدت أبحاث جامعة أكسفورد (2020) أن جلسات القراءة الجماعية أسهمت في تحسين الصحة النفسية وخفض الشعور بالعزلة.
غير أن الأثر العميق للعلاج بالكلمة يتجلّى بوضوح في عالم الطفولةِ. فالطفل حين يسمع حكايةً عن أرنبٍ يخاف من الظلام، أو عصفورٍ يتعرض للتنمّر، أو دُبّةٍ يتيمة تبحث عن دفء، لا ينصت لمجرد قصة، بل يرى نفسه في مرآة الحكاية. يجد الكلمات التي تعجز لغته الصغيرة عن صياغتها، ويتعلم أن الغضب يمكن ضبطه، وأن الخوف يمكن ترويضه، وأن الأمل يظل ممكنًا. وقد أظهرت دراسة منشورة في (Journal of Child and Adolescent Psychiatric Nursing، 2018) أن استخدام القصص العلاجية مع الأطفال الذين مرّوا بتجارب صادمة ساعد على خفض القلق وتعزيز القدرة على التعبير عن الذات.
ولهذا أصبحت القصة أداة أساسية في برامج تعديل السلوك والدعم النفسي، امتدادًا لإرثٍ إنساني قديم آمن بأن الكلمة تملك أن تداوي ما يعجز الدواء عن لمسه.
إن الكلمة لم تكن يومًا مجرد حروفٍ وحبرٍ على ورق؛ فليس كل ما يُقال أو يُكتب يترك أثرًا. إنما هي الكلمة التي كُتبت لترتقي بالقلب، وتُسري عن النفس، وتفتح للعقل سبيلًا، وتمنح الإنسان فرصة للتأمل والتفكّر.
عزيزي القارئ، حين تفتح كتابًا لا تبحث فيه عن حكاية عابرة فحسب، بل عن شفاء قد لا تتوقعه. اقرأ لا لتملأ وقتك، بل لتملأ روحك. فربما كانت الصفحات بين يديك الآن ليست كلماتٍ وحسب، بل جرعات أمل صغيرة تقودك إلى ذاتٍ أكثر قوة وطمأنينة.